الرئيسية مقالات واراء
لم يبق في يد تنظيم داعش، الذي شغل الدنيا، في الأعوام الثلاثة الأخيرة، سوى بعض المناطق في دير الزور والرقة، والبوكمال وبعض الجيوب، وهو محاصر من جميع الجهات، وتتسابق القوى الدولية والإقليمية على الاستيلاء على تركته التي وصلت في مرحلة من المراحل إلى ما يزيد على نصف أراضي سوريا و40 % من أراضي العراق.
هل يعني ذلك أنّ التنظيم، الذي أقام دولة كسابقة في تاريخ الحركات المعاصرة، وكسر الحدود الجغرافية بين الدول، ورفع شعار "باقية وتتمدد" هو في طور الانهيار والانتهاء تماماً بعدما فشل مشروعه – الدولة-؟
في مقالته أمس (في جريدة الحياة اللندنية) كتب الزميل والصديق حازم الأمين متوقعاً أنّ "داعشَ" جديدا سيولد ليملأ الفراغ الناجم عن حالة الضعف الاستراتيجية لـ"السنّة المشارقة"، بخاصة في العراق وسورية، مع تنامي النفوذ الإيراني وصعود الحلم الكردي، والصبغة الطائفية للميليشيات التابعة لإيران والأنظمة العراقية والسورية.
ما وصل إليه الأمين هو الشرط نفسه الذي ذكرناه في كتابنا (المشترك مع الصديق حسن أبو هنية) عن تنظيم داعش إذ وضعنا عنواناً فرعياً ربطنا فيه الصعود الداعشي بالأزمة السنية غير المسبوقة، على الأقل في العصور الحديثة، وما يتولّد عنها من أزمة هويّاتية كبيرة، وتخلق ردود فعل ستستمر حتى بعد الانتهاء من "دولة داعش".
التنظيم أتقن العزف على سيمفونية الأزمة السنية ووظّفها بصورة كبيرة، في الأعوام الماضية، وتمكّن من خلالها من تجنيد أعداد كبيرة من الشباب العربي والمسلم، وعمّق بمواقفه وخطابه الصدع الطائفي المرعب في المنطقة، فيما مثّلت السياسات الإيرانية الوجه الآخر لهذا الصدع.
بمعنى؛ الحل العسكري لا يكفي وحده، بل ربما يؤدي إلى أضرار أكبر، وإذا لم تكن هناك "تسويات تاريخية" وأنظمة أكثر عدالة وتعددية، تخرج من العباءة الطائفية، وتنهي المظلوميات، وهو أمر ليس قيد التحقق فيما نراه اليوم من سياسات دولية وإقليمية، فإنّ التنظيم سيخرج من جديد، بصورة جديدة وأكثر شراسة.
لكن طالما أنّنا وصلنا إلى أنظمة أكثر عدالة وتعددية وانفتاحاً فإنّنا نقترب أكثر من سبب آخر جوهري، بل وأكثر أهمية من مفهوم الأزمة السنية نفسها، وهو افتقاد جيل الشباب العربي لهذه الأنظمة، بل وازدياد سياسات التضييق والتهميش والاعتقال في كثير من الدول العربية، والإمعان في إغلاق أي أفق سياسي سلمي في التغيير، فمثل هذه السياسات هي التي ولّدت شرارة الربيع العربي 2011، وهي التي قد تولّد احتجاجات جديدة لكنّها قد تكون هذه المرة ذات طابع أصولي وعنيف!
بالأمس ثبّتت محكمة مصرية الحكم على محمد مرسي، الرئيس المصري السابق، بعقوبة 25 عاماً، بدعوى التخابر مع قطر، وهي تهمة مضحكة فعلاً، لكنّ دولاً عربية تأخذها بصورة جديّة، بل لم يتردد أمس أحد "الكتّاب"، في صحيفة عربية، في تبرير اعتقال قيادات إسلامية سلمية، والزجّ بهم في السجون، بوصفهم – وفقاً لهذا الكاتب- "خلية قطرية"، وهم معروفون بعدائهم لداعش والقاعدة.
مثل هذه الروح المكارثية، المتزاوجة مع الانقسامات والخلافات العربية، وضرب حتى الأصوات المعارضة السلمية، مع استمرار الأزمات الاقتصادية ودعاوى الفساد، ومعدلات بطالة مرتفعة في كثير من دول عربية، تمثل جميعاً وصفة نموذجية لمرحلة قادمة أكثر خطورة مما مضى، وتنذر ليس بثورات شعبية تحررية سلمية تقودها الطبقة الوسطى، بل بجيل من الغاضبين المحبطين، الذين فقدوا الأمل بالسلمية وبالمدنية والديمقراطية!