الرئيسية مقالات واراء
دخلت قوات الحشد الشعبي إلى كركوك أول من أمس، واستطاعت إعادة الإمساك بالمدينة ومدن أخرى، خلال ساعات قليلة، بينما اكتفت قوات البشمركة الكردية بالانسحاب، بناء على اتفاق بين هادي العامري (قائد الحشد الشعبي) وبافل الطالباني (نجل الزعيم الراحل جلال طالباني)، مع الحكومة ويقال إنّ من رتّب الصفقة وتفاصيلها هو الرجل الأقوى في المنطقة اليوم، الجنرال الإيراني قاسم سليماني، وبإشراف من رئيس الحكومة العراقية، حيدر العبادي.
ثمّة تحليلات وتسريبات عديدة عن "الصففة الغامضة"، وهناك اتهامات في الأوساط الكردية نفسها جرّاء التنازع والصراع التقليدي بين الحزبين الكبيرين، الديمقراطي الكردستاني (مسعود برزراني- الزعيم الحالي لكردستان العراق)، وحزب الاتحاد الوطني الذي كان يقوده جلال طالباني (الرئيس العراقي الراحل)، وتساؤلات عن الموقف الأميركي، مع وجود تسريبات بأنّ الأميركيين علموا بالعملية قبل وقوعها، ووافقوا عليها بشرط أن تكون "نظيفة".
بالطبع ما حدث له تأثير كبير على مستقبل العلاقة بين الأكراد وحكومة بغداد، وعلى جدوى إقامة الدولة الكردية مع سيطرة بغداد على النسبة العظمى من الثروة النفطية، وعن أثر الخلافات التقليدية بين البرزانيين والطالبانيين، أو بين أربيل والسليمانية، التي اتُّهمت بالخيانة من قبل الطرف الكردي الآخر بسبب تسليم المدينة من قبل قوات البشمركة الموالية لنجل طالباني، والمحسوبة على السليمانية.
على كلٍّ، هذا الحدث المهم والاستراتيجي ستكون له تداعياته ودلالاته المحلية العراقية والإقليمية، وحتى على صعيد السياسات الدولية تجاه المنطقة العربية، وسنجد الوقت الكافي لمتابعة تفاصيله وتطوراته، لكن إذا كانت هنالك دلالات سريعة، ففي مقدمتها ما يرتبط بالحلم الكردي، الذي من الواضح أنّ التوقيت لم يسعف استفتاء كردستان (الشهر الماضي) كثيراً، فجرى إحباط هذه الخطوة، وتواطؤ الأجندات الدولية والإقليمية لقمع وتحجيم مشروع الاستقلال والتشكيك بجدواه.
لكن مع ذلك فإنّ الهوية الكردية اليوم أصبحت طاغية وساطعة، وقد تجاوز الجميع خط ما قبل العام 2011، وربما ما حدث هو تأجيل وترحيل بعض الملفات المعقدة في المرحلة الحالية إلى حين الوصول إلى تفاهمات وتوافقات دولية وإقليمية حولها، وقصة الهويات لا تقف عند الأكراد، فهنالك هواجس مسيحية كبيرة من الأجندات الطائفية، في سورية والعراق، وهناك صعود للمسألة السنية، والمخاوف من النفوذ الإيراني، وسؤال الأقليات، بمعنى أن المنطقة بدت وكأنّها تعلق في شبح الهويات الطائفية والعرقية والدينية المتصارعة.
على الطرف الآخر من الواضح أنّ الإدارة الأميركية تعمّدت الغموض والالتباس في موقفها، فلها مصالح مع الأطراف المختلفة، دولياً وإقليمياً ومحلياً، فهي من جهة تحتاج إلى الأكراد، الذين أصبحوا بمثابة "الشرطي الأميركي" في العراق وسورية، لكنّهم لا يريدون خسارة الحكومة العراقية والأتراك والقوى الإقليمية الأخرى، لذلك ادّعت المتحدثة باسم الخارجية الأميركية بأنّهم محايدون في الصراع الحالي بين الأكراد والحكومة العراقية.
في الخلاصة ما حدث يؤكّد بأنّنا قيد عملية إعادة ترسيم لمناطق النفوذ الدولية والإقليمية والداخلية تجري في العراق وسورية، أي في قلب الشرق الأوسط، وعلى مستقبل المنطقة، لوراثة أصحاب "الرايات السود" (داعش)، لكن إلى الآن الصورة النهائية لهذا التنافس، الذي يأخذ صورة صراعات في أحيان وتفاهمات في أحيان أخرى، ما تزال غير واضحة، وما هو جلي تماماً أنّ الطرف الأقوى على الأرض في سورية والعراق هم الإيرانيون، ومعهم دولياً الروس، بينما الأوراق الأميركية محدودة جداً، أمّا العرب فغائبون تماماً!