الرئيسية مقالات واراء
يتوافر التقرير السنوي الثالث عشر لحالة حقوق الإنسان في الأردن للعام 2016، على تشخيص متميز ودقيق للتطورات التي شهدتها حالة حقوق الإنسان خلال العام الماضي، ما حدث من تقدّم وما اعتراها من نكوص وتراجع، وفيه أرقام ووقائع تعطي مؤشرات مهمة مقارنة بدول أخرى وبمراحل تاريخية سابقة.
إلاّ أنّ ما شد اهتمامي وانتباهي، وأثار إعجابي حقّاً تلك اللغة الرفيعة القوية الواضحة في مقدمة التقرير، المسبوكة برؤية فكرية متميزة، ليس فقط لأوضاع حقوق الإنسان وتفسير وتحليل الصعود والهبوط فيها، بل لبناء منظور وطني متكامل وشمولي لحقوق الإنسان، يقوم على هيكلة مهمة للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وربط بين الأبعاد المختلفة في الموضوع، وربط الأسباب بالنتائج، فالمقدمة بذاتها تستحق الإشادة الكبيرة، والاهتمام أكثر بما تضمنته من منهجية فكرية موزونة.
المقدمة رصدت المزاجين الرسمي والشعبي خلال الأعوام الأخيرة، منذ أحداث الربيع العربي 2011، وحالة التقلب والانقلاب فيهما، وعملت على تحليل حالة السلبية والتشاؤم في المزاج الشعبي وربطها بتراجع الالتزام الرسمي الحكومي بالإصلاح السياسي، وبالتراخي باحترام حقوق الإنسان، بخاصة الحق في التعبير، مع الضغوط المعيشية والاقتصادية التي يتعرّض لها المواطن، من دون وجود مناخ سياسي يستوعب ذلك ويحتويه!
يقول التقرير (في مقدمته) "والمحصلة لمجمل هذه السياسات الرسمية والتشرذم المجتمعي هي ما تشهده البلاد منذ فترة وجيزة من عجز واضح في الأداء الوطني، وغياب المشروع الإصلاحي الناجز، وهيمنة الاعتبارات الأمنية على الأجندة الوطنية وتوجيه مخرجات الاقتصاد والمكتسبات والامتيازات والحوافر، بما في ذلك ما تيسر من المساعدات الخارجية التي تلقتها الدولة بشكل عام وفي ظل غياب الشفافية بعيداً عن اعتبارات العدالة والمساواة وعدم التمييز في حالات. وهناك شكاوى من الجمهور أن الامتيازات والترقيات والتعيينات ذات الصبغة الخاصة غالباً ما يحظى بها محاسيب أقرباء مسؤولين محدودين. لقد بدأ الاردن يشهد عودة لنهج منح الحقوق والامتيازات لمن يقدم الولاء والدعم للسياسات والمواقف الرسمية، مقابل محاصرة النقد والاحتجاج المشروع والذي قد ينمّ أحيانا عن ضيق الصدر بما يجري من تجاوز لقواعد ومعايير النزاهة التي يتضمنها ميثاق النزاهة الوطني".
هذه الفقرة والفقرتان اللتان تلتاها، مثلاً، في المقدمة (ولا نستطيع نقلهما لمحدودية المساحة المتاحة للمقال) هي فقرات على درجة عالية من النقد والشجاعة الأدبية، وتحتاج إلى جلسات نقاش معمّقة على مستوى النخب أو المؤسسات الفكرية في البلاد.
سيقول البعض ما فائدة ذلك كله؟! إذ كانت الجهات المسؤولة "إذن من طين وأخرى من عجين"، ولا نجد هناك انعكاساً لهذه الوثيقة وذلك التقييم على أرض الواقع، كما يعترف التقرير نفسه بوجود تجاهل حكومي ملحوظ.
ذلك القول صحيح، لا يمكن الاعتراض عليه، لكن وجود مثل هذه الوثيقة الفكرية- الرصدية، أفضل من غيابها، وإذا كانت هنالك مماطلة حكومية أو تجاهل لها، فمن الضروري أن يقوم الإعلام والمجتمع المدني والمؤسسات المختلفة بإثارة النقاش حول مضمون التقرير وتسليط الضوء على نقاط عديدة فيه، وهو ما لم يحدث للأسف، إذ مرّ مرور الكرام، وكأنّه تقرير بروتوكولي، وهو ليس كذلك أبداً!
المركز الوطني لحقوق الإنسان قدّم وثائق مهمة في الأعوام الأخيرة، وهو أمر يشكر عليه العاملون في المركز والمفوض العام، د.موسى بريزات (ولمساته واضحة)، ومجلس الأمناء، برئاسة العلاّمة الأستاذ محمد عدنان البخيت.
مثل هذه الجهود مع جهود المجلس الاقتصادي الاجتماعي ومركز الدراسات الاستراتيجية في الجامعة الأردنية، يمكن أن تشكّل رافعة لمؤسسات رقابية حقيقية، وتطوير الأفكار الوطنية البديلة، في ظل عجز الأحزاب والمؤسسات الأخرى عن القيام بهذه المهمة.