الرئيسية مقالات واراء
كانت محاضرة الدكتور عبد السلام المجالي "نصف قرن مع الحسين"، بالفعل – كما يقال- حديثٌا ذا شجون، في باكورة سلسلة المحاضرات التي يعقدها مركز الدراسات الاستراتيجية في تدشين "كرسي الحسين" للدراسات، الذي يحتضنه المركز، وقد تأسس قبل أشهر.
جاشت ذاكرة العديد من الحاضرين، ممن عملوا مع الراحل الحسين، وقاموا بسرد قصصهم الخاصة هم أيضاً، بالإضافة إلى القصص التي ذكرها المجالي في محاضرته. لكن الغريب، فعلاً، أنّ أغلب هذه القصص والروايات يحتفظ بها أشخاص وسياسيون عملوا مع الراحل لفترات طويلة أو قصيرة، وغير مدوّنة بصورة منهجية ودقيقة في أدبيات وكتب، وربما هذه من المهمات المنتظرة التي يسعى إلى القيام بها كرسي الملك الحسين.
المهم في الأمر أنّنا لا نتحدث عن السرديات والروايات فقط، لكن عما أسماه الدكتور موسى شتيوي، مدير المركز، إعادة قراءة مرحلة الحسين وتحليلها، بصورة علمية ومنهجية، وهو بالفعل المطلوب، لأنّ الملك الراحل ظُلم كثيراً، ولم يأخذ حقّه في التاريخ، فضلاً عن التشويه المتعمّد والروايات الظالمة التي تمّ ترويجها من الإعلام العربي ومن سياسيين وكتّاب عنه، ومن ذلك روايات الصحفي المصري الراحل محمد حسنين هيكل، التي لم تجد ردّاً علمياً تاريخياً محكماً في حينه.
بعض القصص التي تمّ ذكرها خلال المحاضرة، من المجالي والمعلقين، كفيلة وحدها بإبراز فن الحكم لدى الحسين والإدارة والديبلوماسية وبناء الدولة والتواصل مع المجتمع والتقاط النبض الحقيقي للشارع الأردني والعربي، فكيف إذ كنّا أمام كم كبير من القصص والسرديات والروايات، فإنّها مجتمعة ستؤسس للقراءة المطلوبة لـ"عبقرية الحسين" ومنهجه في إدارة الدولة.
للأمانة من الضروري الاعتراف بأنّ الحسين نفسه ساهم وشارك في عملية الظلم التاريخي والسياسي الذي وقع عليه، لأنّه كان لا يهتم بعملية التوثيق لاجتماعاته ومحاضراته ولقاءاته، وإن كان تنبّه مع الأمير الحسن في مرحلة متأخرة لذلك، لكن هذه العملية (التي شارك فيها بصورة فاعلة المؤرخ الأردني د. محمد عدنان البخيت، الذي أشرف على كمّ نوعي وتأريخي مهم من سلسلة الوثائق الهاشمية، بخاصة في مرحلة الإمارة) تحتاج إلى جهود مؤسسية ضخمة، في تجميع الروايات والأرشيف الوطني، المتناثر في الديوان الملكي وفي المؤسسات العسكرية والأمنية والسياسية المختلفة، وفهرسته وتصنيفه، وتوثيق الشفهي منه.
من الضروري ألا تقف عملية بناء الذاكرة الوطنية عند حدود الأرشفة أو توثيق التاريخ الشفهي، بل تنتقل إلى مجال التحليل والقراءة والاستنتاج، وصولاً إلى بناء المفاهيم التي تستبطن منهج الحسين في الحكم والإدارة والسياسة، لتحصل الإفادة المطلوبة على أكثر من صعيد، أولاً الدروس والحكم للسياسيين الأردنيين، وثانياً لبناء الذاكرة الوطنية للأجيال الجديدة، بصورة صحيحة منهجية، يفهمون من خلالها كيف بُني هذا البلد وصمد وعبر محطّات وجودية حاسمة.
في نهاية اليوم المطلوب أن نبني تصوّراً عن "نموذج الحسين" في السياسة والحكم، من خلال مجموعة كبيرة من الأبحاث والدراسات والأوراق والنقاشات، والتركيز على الأبعاد المختلفة في شخصيته، ونحن أمام سلسلة طويلة من المحاضرات والندوات القادمة، التي يعقدها المركز في هذا السياق.
بالضرورة، الحسين لم يكن مَلاكاً، لكنّه كان ملكاً عرف كيف يبني وطنه ويحافظ عليه وسط أعاصير عاتية، ولم يكن دموياً، ولا ظالماً، كان إنساناً حتى مع المعارضين والخصوم، ومع ألدّ أعدائه، ولأنّه أحبّ شعبه من صميم قلبه أحبه الناس بالطريقة نفسها، أليس ذلك بحدّ ذاته نمطاً فريداً في السياسة العربية!