الرئيسية صوتنا
أحداث اليوم - رنا الصباغ - يتهيأ الأردن الرسمي لتلقي “صفقة” القرن وتداعياتها الكارثية عليه في حال تطبيقها على أطلال خيار “حل الدولتين” الاستراتيجي، الذي تمسكّت به عمّان وسائر العواصم العربية والأوروبية قبل أن ينسفه الحلف الأمريكي-الإسرائيلي-السعودي الجديد ضد إيران.
وتشعر عمان بقلق شديد من فرط سطوة التغيير في خارطة تحالفاتها الاستراتيجية التقليدية مع تل أبيب وواشنطن والرياض، إذ تجد نفسها محاصرة بخيارات داخلية وخارجية مركبة، وفق تشخيص رؤساء وزارات سابقين وشخصيات سياسية عامة وإعلامية التقت الملك عبدالله الثاني خلال الفترة الماضية.
أطلّت ملامح التحالف الجديد مع صعود الرئيس الأمريكي دونالد ترامب سدّة الحكم وتسمية محمد بن سلمان وليا للعهد في السعودية، قبل أن تتوتر العلاقات بين البلدين عام 2015 على وقع شح المساعدات وتتويج الملك سلمان بن عبد العزيز غير المعجب أصلا بعمّان منذ عقود بسبب “عقدة الهاشميين”.
هذا التحالف الثلاثي يقوّض دور الأردن الإقليمي في الصميم قبيل الإعلان عن هذه الصفقة غداة الانتخابات التشريعية في إسرائيل المقررة مطلع نيسان/ إبريل، حسبما يرى ساسة ومسؤولون سابقون.
فنشر تفاصيل الصفقة المريبة الآن سيصعب على نتنياهو تسويقها بين صفوف أحزاب وتيارات اليمين المتطرف في إسرائيل، ذلك أنها ترتكز إلى تبادل أراض وتنطوي على إشكالات خصوصاً حول ملف القدس. ورغم إجحافها بحقوق الفلسطينيين وتعدّيها على الحقوق الأردنية، ستطارد هذه المعادلة نتانياهو حتى لو نجح في تشكيل حكومة جديدة.
إذ تكشف تسريبات مثلاًَ، عن وضع المناطق المقدسة تحت سيطرة إسرائيلية، لكن بإدارة مشتركة مع الفلسطينيين والأردنيين، ما سيغضب اليمين الإسرائيلي بقيادة نفتالي بينيت، إيليت شاكيد ووزير الدفاع الأسبق أفيغدور ليبرمان. ويصف هؤلاء أنفسهم بأنهم ممثلو اليمين الإسرائيلي وليس نتنياهو المتطرف أصلاً، الذي يقف اليوم الى يسار اليمين.
أحد الذين شاركوا في لقاء تشاوري قبل أيام بين الملك عبدالله الثاني ورؤساء وزارات سابقين ينقل عن الملك قوله بصريح العبارة: “حلّ الدولتين لم يعد وارداً. وصفقة القرن قادمة لا محالة وستكون نتائجها كارثية على الأردن”. ورأى صاحب الدعوة أن إسرائيل ستكون الرابح الأقوى بسبب علاقاتها مع السعودية، ذلك أن الطرفين ينشدان فرض واقع جديد على الشرق الأوسط عنوانه: ” أن المعركة الرئيسية مع إيران لأنها أساس الخطر على أمن المنطقة واستقرارها”.
شخصية أخرى حضرت اللقاء ذاته تقول إن الملك طالب الدولة الأردنية بمؤسساتها الرسمية والشعبية كافة بأن تكون واعية لهذا الخطر. وأكد أيضا لرؤساء الحكومات السابقين أن “موقف الأردن واضح… القضية الفلسطينية وليس إيران أساس عدم الاستقرار في المنطقة”. إلى ذلك حثّ على تعزيز لحمة الأشقاء الفلسطينيين من خلال محاولة رأب الصدع بين حماس في غزة وفتح في الضفة ورفض الصفقة التي لن تمضي قدما دون موافقة الفلسطينيين، والإصرار على حل عادل وشامل للقضية.
هذا الموقف تجلّى أيضا في لقاء مغلق في البحر الميت بمشاركة وزراء خارجية أربع دول خليجية إلى جانب نظيريهما المصري والأردني، عقد قبل أسبوعين من مؤتمر وارسو للأمن والسلام في الشرق الأوسط منتصف شباط/ فبراير الحالي. شارك في إجتماع وارسو رئيس وزراء إسرائيل، نائب رئيس أمريكا ووزير خارجيتها.
صحيح أن مؤتمر وارسو وضع في مقدمة أهدافه مواجهة طهران وسياساتها “التوسعية والتخريبية” في المشرق العربي، وفي ثناياها تطبيع العلاقات العربية مع إسرائيل وإدخالها طرفا في معادلة القوة الإقليمية. لكن الأردن أعاد التأكيد على محورية القضية الفلسطينية، واستمر في انتقاد مؤتمر وارسو الذي رتّب لخدمة نتنياهو.
إذا، ما هي خيارات الأردن المتاحة بعد أن شخّص الملك بوضوح تام حال الوطن المقلق ودخل في تفاصيل تأثير المحور الجديد على مملكة كانت تتمتع بعلاقات شبه حصرية مع إسرائيل بفعل معاهدة السلام عام 1994، وكذلك بعلاقات سياسية وعسكرية واقتصادية متينة مع الحليف الأمريكي قبل أن تدخل السعودية بقوة على خطي واشنطن وتل أبيب وتغير أولويات المنطقة على متن صداقة قوية بين محمد بن سلمان وجاريد كوشنر؟
ثمّة رهان أردني على توصل القادة العرب، بغض النظر عن اصطفافاتهم ومواقفهم المتضادة وغير المفهومة في أحيان كثيرة، إلى الحد الأدنى من التوافق على أنهم لن يستطيعوا القبول بأي تسوية لا يقبلها الفلسطينيون الذين قطعوا خطوط التواصل مع إدارة ترامب. هذا التوافق قد يصعّب تنفيذ الصفقة من الناحية السياسية، لكنه قد يفتح الباب على إغراءات لحلول اقتصادية تعرضها واشنطن لتحسين المزاج العام في الإقليم في حال توفر التمويل الخليجي بينما تؤجل إسرائيل الحل السياسي وتنفّذ مخططاتها التوسعية، ومنها بناء جدار فاصل مع الأردن.
على أن المراوغة واللعب على التحالفات لن تنجي إسرائيل في المحصلة النهائية. لماذا؟ لأنها لن تصمد مع بروز بدائل أخرى – على شاكلة قيام دولة “اسراطين” – داخل الدولة العبرية رغم أن أصواتا فلسطينية بدأت تطرح هذا الخيار بقوة، مراهنة على عامل الوقت وتناسل القنبلة الديمغرافية لكسر شوكة إسرائيل.
رهان الأردن الآخر يكمن في إحجام التحالف الجديد عن شن حرب على إيران لكسر نفوذها. لكن المناوشات والمهاترات السياسية، الإعلامية والاقتصادية ستستمر في شحن أجواء المنطقة الملتهبة أصلا. وهناك خشية من تعمق الانقسام المذهبي بين السنة والشيعة بفعل الأجواء المحتقنة. كما يراهن الملك على إدراك ترامب ولو متأخرا – بعكس صهره المقرب من نتنياهو واليمين الإسرائيلي- بأنه ليس من مصلحته تعميق عدم الاستقرار السياسي في المنطقة من خلال صفقة لن تفضي إلى تسوية سياسية شاملة استنادا للقرارات الدولية المتمسك بها معظم أعضاء الأمم المتحدة. وبالتالي، قد يتكتك ترامب بالصفقة السرّية حتى الآن لدعم حملته الرئاسية الثانية.
في الأثناء، يفتح عبدالله الثاني رأس الدبلوماسية الأردنية الأبواب من جديد مع دول عربية كانت إيران تمسك بأوراق اللعبة السياسية فيها مثل العراق وسوريا. كما يعزّز العلاقات مع تونس، التي تستضيف القمة العربية في آذار/ مارس المقبل. ويعزّز أيضا علاقات بلاده المتينة مع مصر بأمل بناء تكتل إقليمي يضم هذه الدول، وسوريا لاحقا بعد أن يساعد الحليف الروسي على ترطيب الأجواء بين دمشق وعمان. فلعل هكذا تكتل ينجح في توفير أوراق للمناورة في وجه التحالف الجديد. بموازاة ذلك، تنفتح عمّان بصمت على قوى إقليمية مثل إيران دون التأثير على علاقاتها المصيرية مع واشنطن أو الهرولة لأرسال سفير لطهران.
يسعى الأردن إلى تنويع خياراته الاستراتيجية لكن دون صخب عبر نهج يوفر مزيد من التوازن لحماية المصالح الوطنية. نهاية العام 2018 فتحت المملكة حدودها مع سوريا بعد مرور سبع سنوات عجاف على نصيحة الملك للأسد بالتنحي استجابة لمطالب المتظاهرين آنذاك. ورفعت عمان مستوى تمثيلها الدبلوماسي في سوريا بتعيين دبلوماسي برتبة مستشار قائم بالأعمال بالإنابة في سفارتها التي لم تغلق طيلة السنوات الماضية.
اليوم أصبحت واشنطن وليس السعودية المانح الأول للأردن، تليها اوروبا. إذ تدفع واشنطن 1.5 مليار دولار سنوياً لإنقاذ الاقتصاد الأردني المنكوب ودعم الموازنة المثقلة بعجز مرعب يهدّد الأمن والاستقرار بالحد الأدنى إضافة لمساعدات عسكرية.
القيادة الأردنية باتت تميّز بين التشدد الذي يبديه الحرس الثوري الايراني وسائر ساسة هذا البلد المعتدلين. وتدرك أن تناقض أوروبا مع موقف الإدارة الامريكية حيال ملفي إيران والقضية الفلسطينية يلعب لمصلحتها. كما تراهن على نسب الملك إلى آل البيت كورقة قوى لتليين العلاقات مع الشعب الإيراني.
في القاموس السياسي الأردني الجديد لم تعد هناك منظومة واحدة اسمها دول الخليج العربي محطّ رهان وحيد، وبخاصة منذ أن كشفت الأزمة السياسية بين قطر والسعودية هشاشة النظام السياسي الخليجي. لا ننسى تأثر العمق الاستراتيجي الأردني عقب انهيار نظام صدام حسين والحرب السورية والأزمات المتتالية في مصر.
كانت عمّان تلقت إشارات حول رغبة طهران في تشجيع العراق على الانفتاح اقتصاديا وسياسيا على عمان، ما شجّع عبدالله الثاني على زيارة بغداد في خطوة غير مسبوقة عربيا، لفتح الطريق أمام محادثات بين الحكومتين أفضت إلى توقيع سلسلة اتفاقيات تعاون وإعادة فتح الحدود أمام التجارة البينية.
على خط مواز، زار رئيس الوزراء عمر الرزاز أنقره قبل أسابيع في مسعى لترطيب الأجواء وتمتين العلاقات السياسية والتجارية. واطلع الأردنيون على مراسم توديع السفير الإيراني في عمان مجتبى فردوسي بور بعد سنوات من التعتيم الإعلامي. إذ أقام له الأمير الحسن، عم الملك، وليمة وداعية بحضور رؤساء وزارات سابقين. وقبلها أرسل الملك برقية للرئيس الإيراني بمناسبة العيد الوطني. وأمس أعلنت الخارجية الأردنية عن إطلاق طهران سراح ثلاث مواطنين أردنيين كانوا قد دخلوا المياه الإقليمية عن طريق الخطأ نهاية العام الماضي.
في القاموس السياسي الأردني الجديد لم تعد هناك منظومة واحدة اسمها دول الخليج العربي محطّ رهان وحيد، وبخاصة منذ أن كشفت الأزمة السياسية بين قطر والسعودية هشاشة النظام السياسي الخليجي. لا ننسى تأثر العمق الاستراتيجي الأردني عقب انهيار نظام صدام حسين والحرب السورية والأزمات المتتالية في مصر.
العلاقات الأردنية -الكويتية متينة جداً، بحسب ما يرشح من معلومات رسمية. وأمير الكويت مستمر في دعم الأردن بكل الطرق الممكنة. العلاقات مع الإمارات ايضاً تتحسن بعد فترة جفاء. السعودية المنشغلة في بناء دور إقليمي ودولي لا تبدي أي اكتراث لتحسين العلاقات مع الأردن. سلطنة عمان تلعب لوحدها. البحرين منشغلة بهمومها الداخلية وبتأثير السعودية عليها. العلاقات الأردنية القطرية تتقدم دون ضجيج.
صحيح أن الأزمة السياسية الصامتة بين عمان والرياض لم تخرج للعلن مع الخشية من إقدام الرياض على طرد جيوش من المغتربين الأردنيين. لكن السنوات الماضية شهدت تنامي شكاوى مسؤولين كبار في الغرف المغلقة من عدم اكتراث الرياض بتقديم دعم مالي لعمان أو بمحاولات الأردن لترطيب العلاقات بعد عدّة زيارات قام بها الملك عبدالله الثاني، أو بعد الزيارة اليتيمة للأمير محمد بن سلمان إلى عمان. ثمّة شكاوى من أن السعودية تحاصر عمان من خلال الضغط على المانحين الغربيين، وتعمل على تحدي البساط الهاشمي من رعاية المقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس الشرقية المحتلة، والمصانة بموجب اتفاقية السلام للتقرب من إسرائيل.
قامت السعودية والإمارات والكويت بوضع وديعة بالبنك المركزي بمبلغ 1.6 مليار دولار بشروط تفضيلية قبل شهور لدعم الاستقرار النقدي ضمن إطار حزمة مساعدات قيمتها 2.5 مليار دولار على مدى خمس سنوات تعهدت بها الدول الثلاث خلال قمة مكة التي دعت إليها السعودية على وقع احتجاجات في الأردن ضد قرارات زيادة ضريبة الدخل وفرض ضريبة مبيعات على عدد السلع الأساسية. لكن السعودية، بعكس الإمارات والكويت، لم تلتزم بإرسال المنحة السنوية بقيمة 250 مليون دولار. (درج)