الرئيسية مقالات واراء
كل مرة یختطف العسكر ثورات الشعوب بذریعة حمایتھا والاستجابة لھا، ولم نر بلدا عربیا واحدا فیھ مؤسسات مدنیة تدیر المشھد بعد كل ثورة، بل تدخل المؤسسات العسكریة، باعتبارھا الوحیدة القویة، والوحیدة التي بیدھا الإمكانات، فوق انھا الوحیدة في الفراغ، فلا برلمانات، ولا أحزاب، ولا دساتیر ولا قوانین أیضا، بل دبابات وبیانات عسكریة.
دخول العسكر، مثلما رأینا مثلا في السودان، والجزائر، یثبت ان الأنظمة العربیة، لا تبني الا مؤسسات عسكریة، لحمایة الأنظمة، ولا تبني مؤسسات مدنیة لحمایة الشعب، وھذا یفسر ان الطرف الوحید القوي ھو المؤسسة العسكریة التي تدرك في لحظة ما، ان حمایة النظام ذاتھ امر أساسي، وتغییر وجھ النظام فقط ھو السقف الأعلى المتاح والممكن لإسكات الجماھیر.
لم یعد مناسبا كثرة التھلیل للجیوش العربیة بعد كل ثورة، فھي تتدخل على شكل انقلابات ناعمة، لإسقاط رأس النظام فقط، ولاستیعاب الغضب الشعبي، فیما الجیش ھنا، یرید ان یحكم او یحمي النظام ذاتھ، ویضحي بالرأس فقط من اجل تجاوز المرحلة الصعبة.
ألیست كارثة ان الانسان العربي، بعد مائة عام، من الكیانات الوطنیة، والتعلیم والبرامج والشعارات، لا یجد حلا سوى المؤسسة العسكریة، للخروج من الازمات، في مشھد یؤشر أساسا على ان النظام الحاكم لم یسمح أساسا، ببناء مؤسسات مدنیة، ولا قواعد ثابتة وصلبة یتم الاحتكام الیھا، وكل مرة نرى ذات المشھد یتكرر، ویتدخل الجیش، وھو تدخل محفوف بالخطر أیضا، لان تدخل الجیش في ظل وجود فرقاء، وصراعات، قد یؤدي بھ الى الانزلاق الى المواجھة، والدخول في معركة مع الناس، بسبب عوامل عدیدة، بدلا من حمایتھم.
اللافت للانتباه ھنا، انھ منذ ثورة تونس التي فتحت بوابة ھذه التغییرات، لم تحاول أنظمة عربیة كثیرة، التعلم مما یجري، بل راھنت على ان الشعوب سوف تتعلم من الدروس الدمویة، بعد سقوط الأنظمة، وبحیث تسكن وتھدأ وتخاف، امام ما نراه، كل مرة، من خلاصات تقول ان ما بعد كل ثورة، أسوأ مما ھو قبل الثورة، وكأننا امام خیارین، اما حاكما ظالما، واما جھنم الحمراء المفتوحة، بلا حد ولا سقوف أیضا.
نزعة الشعوب للغضب، فیھا وجھ انتحاري، فھذه الشعوب تدرك ان اسقاطھا لرأس النظام، او للنظام، سیجلب علیھا مزیدا من الفوضى أحیانا، لكنھا برغم ذلك، تغامر ولا تقف عند حد، في ظل انغلاق الأفق امامھا، وكأنھا تقول فلتخرب على رؤوسنا، ورؤوس من یحكمنا معا، وھذه النزعة الانتحاریة في ھذا الجانب، لا بد ان تحللھا الأنظمة وتقف عندھا مطولا، لان الركون الى ان الشعوب ستبقى مذعورة، ركون غیر حمید، وسطحي أیضا في بعض جوانبھ.
اثبتت البنیة العربیة، عموما، قدرتھا الكبیرة جدا على الاختلاف، اذ ندر ما شھدنا توافقا عربیا، على ما بعد سقوط أي رئیس، وسط صراعات داخلیة، وتثویر لكل المكونات على أسس دینیة او قبلیة او حزبیة او مذھبیة او طائفیة، وفي ظل تحریك خارجي، عبر المال والسلاح والاعلام، ووجود اختراقات بنیویة، تجعل كل ثورة، مجرد مشروع للفوضى.
لقد آن الأوان ان تتنبھ الدول العربیة المستقرة، الى أوضاعھا الداخلیة، بحیث لا تسمح بتمدد ھذه الحالة الیھا، عبر اصلاح بنیتھا، وإشاعة العدالة والمساواة، ووقف الفساد، والتركیز على التنمیة الاقتصادیة، وفتح الفرص المغلقة للناس، وتجوید الخدمات في كل القطاعات، وبدون ذلك، تصیر القصة مجرد قصة وقت، ونحن نرى كیف ان الشمال الافریقي العربي، برمتھ واجھ ویواجھ أزمات من السودان الى مصر، وصولا الى لیبیا وتونس والجزائر، ثم الیمن والعراق وسوریة، وبحیث باتت الدولة الامنة ھي الاستثناء ھذه الأیام.
لا یمكن لمن یمتلك القوة على الأرض، أي العسكر، ان یقبل بدولة مدنیة بمعنى مؤسساتھا، وھذا یعني ان ما شھدناه في السودان، كان مجرد انقلاب على الانقلاب، أي انقلاب جدید، على الانقلاب الذي قام بھ البشیر، أساسا، وھو انقلاب مؤھل لمواجھة انقلاب آخر، وبھذا المعنى وبعیدا عن كل الاحتفالیات بما یحدث في السودان، فإننا نتوقع فترة سیئة للغایة في السودان، جراء كل العوامل السابقة، وبحیث یلد الظالم، ظالما آخر.