الرئيسية مقالات واراء

شارك من خلال الواتس اب
    وطن على "منحدر"

    أحداث اليوم - سائد الجاغوب - بما أننا نعيش في زمن ليس له ملامح وفيه ما فيه من الانفلات والسقوط والتردي فمن الطبيعي أن تجد أناسا قد تشوشت لديهم (الرؤيا) وتلخبطت لديهم المفاهيم فلا نستغرب إن اختلت عندهم المقاييس وشطت الموازين وصاروا لا يستطيعون التمييز بين الزبد وبين ما ينفع الناس!

    الفن بكافة أشكاله وخصوصا فن التمثيل عمل ذو رسالة وليس مجرد حشو وتصفيط مشاهد لإكمال حلقات فقط من أجل ملء جدول قناة فضائية! الرسالة التي يحملها فن التمثيل كغيره من الفنون لا تلتزم بطابع محدد فمن الممكن أن تلجأ إلى الكوميديا أو التراجيديا أو أي شكل آخر لإيصال الرسالة. الوسيلة الفنية "مباحة" بكافة أشكالها ولكن المهم كيفية استخدام هذه الوسيلة.

    حلقات " وطن على وتر" الذي لم أشاهده يوما ولكنني اضطررت لذلك مؤخرا بعد اللغط الكبير الذي دار حوله يمثل انعكاسا لحالة التردي التي نعيشها على كافة المستويات وفي جميع المجالات! الأمر ليس تجنيا ولا افتراء بقدر ما هو تحليل موضوعي لمقتطفات من الحلقات التي أكرهت على مشاهدتها من أجل أن أتعرف على سبب الشد والجذب الذي رافق هذا البرنامج، وقد خرجت بالملاحظات التالية:

    - بطل هذا البرنامج لا يمكن تصنيفه بحال من الأحوال تحت خانة الممثلين الكوميديين، هو بأحسن الأحوال شخص صاحب" نكتة" وهنا أقول بأحسن الأحوال! لأن صاحب النكتة يجب أن يكون خفيف الظل سريع البديهة حسن الإلقاء حتى تضحكنا نكتته وهذه الصفات كلها لا تتوفر بهذا الممثل. من يفهم في فن الكوميديا لن يجد صعوبة في استنتاج أن بطل وطن على وتر لا يملك أي موهبة كوميدية ولا يوجد لديه أي نوع من أنواع الكاريزما الفنية التي تجذب الناس الذين يفهمون بالفن إلى مشاهدة ما يقدمه. لا أعتقد أن أي شخص يمتلك أدنى ذائقة فنية يمكن أن ينشد لهذا الممثل! كل ما يفعله أنه يمارس الإضحاك " الرخيص" المبني على حركات وألفاظ "شوارعية" وطريقة لبس وتسريحات شعر وحتى أفكار في مجملها مكررة ومجترة دونى أن يضيف إليها مضمونا ابداعيا يجعل المشاهد يضحك من قلبه. هو فقط يمارس الشكل الخارجي للكوميديا دون أن يكون هنالك جوهر حقيقي، والذين يعرفون بفن الكوميديا يدركون هذا الشيء لأن هذا الفن بالأساس يقوم على مضمون ذو قيمة ثم تأتي الرتوش الشكلية التي تكمل هذا الفن. مستر (بين) على سبيل المثال كان يبني حلقة كاملة على تفصيل صغير هامشي مثل ركن سيارة في موقف ولكنه كان يقدمه بطريقة ابداعية تجعلك تضحك لأسبوع متواصل دون أن ينطق هذا المستر بكلمة واحدة.

    - قد تسأل لماذا يستمر الناس في الضحك على نفس المقطع من " مدرسة المشاغبين" للمرة المئة بينما حلقات كاملة من مسلسلات مثل وطن على وتر تنتهي صلاحيتها بعد مشاهدة أو مشاهدتين على الأكثر؟ في هذه الحالة قد لا يكون مضمون المقطع هو السبب ولكن طريقة تقديمه تلعب دورا، الفرق بين مدرسة المشاغبين وبين وطن على وتر هو الفرق بين "العفوية" و"التكلف" وهو الفرق بين أن "تؤدي" الدور كما يفعل بطل وطن على وتر وبين أن "تعيشه" كما فعل أبطال مسرحية مدرسة المشاغبين.

    - بعض الناس لا يجدون حرجا في اللغة (السوقية) المستخدمة في كثير من مشاهد المسلسل وحجتهم في ذلك أنها لغة الشارع ولغة الواقع وهذا الممثل لم يبتكرها من تلقاء نفسه بل نقلها كما هي كنوع من "الصدق" الفني! هذه المغالطة المنطقية التي يبرر بها الناس استخدام هذه اللغة خاطئة جملة وتفصيلا لأن نقل الواقع لا يعني بالضرورة نسخه كما هو لأن الواقع فيه من الموبقات ما نعجز عن حصره وفيه من "السقاطات" ما لا يمكن تقبله ولا يمكن عرضه ونقل هذه الموبقات كما هي يعني أننا نقوم بهدم أسوار الحياء والعادات والعرف والدين والتقاليد بحجة نقل الواقع، في المرة القادمة يمكن لهذا الممثل أن يستخدم لغة أكثر سوقية وسيبرر له الناس بحجة أنها لغة متداولة في الشارع! ربما نسمع شتما للذات الإلهية في إحدى الحلقات وتصبح أمرا غير مستهجن لأنها تقال في الشارع! وربما تلبس إحدى الممثلات لبسا فاضحا جدا لأن هناك في الشارع من ترتدي هذه الثياب! بهذه الطريقة سنظل نبرر كل فعل شنيع وقول بذيء حتى نصل لمرحلة لا يبقى فيها أي خط أحمر لم يتم تجاوزه! اللغة المتداولة في الشارع لا تعني أنها مقبولة ومستساغة لدى الجميع ولا يعني أن الكل " يطرب" لسماعها ولا يجوز أن " نشرعن" هذه اللغة من خلال القنوات الفضائية فقط لأن جزءا من الناس يستخدمها.

    - من يقارن بين مسلسلاتنا والمسلسلات الأجنبية باعتبار أن الجملة الواحدة في اي مسلسل أو فيلم أجنبي لا بد وأن تحتوي كلمة سوقية وهذا لسان حال الناس في المجتمع فلم الحرج؟ أقول لهم أن مفهوم " الحياء" اللغوي لدى هؤلاء غير موجود تقريبا وبالتالي في عرفهم لم تعد تعتبر هذه الكلمات سوقية بل أصبحت حشوات وجمل معترضة ولازمات يستخدمها الطفل في المدرسة الابتدائية وحتى الشيخ التسعيني بل وحتى رؤساء الدول دون حرج أو خجل لأنها صارت جزء من ثقافتهم! لا تقارنونا بهم فنحن مجتمعات لا زالت محافظة بمجملها ولا زال الأدب والقول الحسن من مكارم أخلاقنا، ولن يصبح الفاحش من القول عرفا في كلامنا حتى ولو ابتلي جزء من مجتمعنا باستخدامه.

    الممثل لدى قطاع كبير من الناس وخصوصا حدثاء الأسنان يعتبر قدوة في طريقة كلامه ولبسه وحركاته وأقواله! بعض الشباب سيعتقدون أن استخدام هذه اللغة الهابطة أمر طبيعي ومقبول لأنها تعرض على شاشة التلفاز وهذا أمر لم نعتد عليه من قبل حتى في أكثر مسلسلات ربيع شهاب وعبير عيسى وداود جلاجل واقعية وملامسة لنبض الشارع والناس. كان مسلسل " العلم نور" ومسلسلات "ربيع شهاب" و"حارة أبو عواد" تضحكنا حد الثمالة وحتى أننا كنا نقلب على ظهورنا من كثرة الضحك ولكنها لم تنحدر يوما إلى هذا القاع الذي انحدرت إليه بعض الدراما المحلية في وقتنا الحالي. هنالك فرق أن تعرض لظاهرة أو حدث من أجل هدف واضح ومن أجل المناقشة والمعالجة وبين أن تستخدم لغة هابطة من أجل إضحاك الناس، ما زال عالقا في مشهد لهذا الممثل وهو يشتم أمه وأبيه بطريقة " مقرفة" في إحدى الحلقات ومشهد آخر يشتم فيه زوجته على اعتبار أن هذا أمر طبيعي ويحدث دائما! كنت أظن أنه يقوم بذلك من أجل معالجة هذه الظواهر ولكنه لم يكن يعالجها إطلاقا بل كان موضوع الحلقة لا علاقة له بموضوع بر الوالدين أو الإحسان للزوجة. بعض من يشاهد مثل هذه الحلقات وخصوصا من المراهقين ربما سيظن أن مخاطبة الأهل بهذه الطريقة أمر طبيعي ومقبول ما دام التلفاز يعرضها وربما سيتعامل بنفس النهج مع والديه واصحابه ومن حوله تقليدا لهذه الحلقات!

    - قال أحدهم يوما أن السخرية هي أعلى مراتب الجد، ولكن للأسف ما زال كثيرون لا يفرقون بين السخرية والابتذال وما زال بعض الممثلين لا يعرفون الفرق بين أن تكون "ساخرا" وبين أن تكون "مسخرة"! التطفل على الفن سيقود حتما لإنتاج جيل من الممثلين الذين سيقودون المجتمع نحو مزيد من السقوط والتخلف والتردي، يقول المثل الشعبي " مش كل من صف صواني صار حلواني" ! لو يتكرم علينا المتطفلون على الفن ويتركوا هذا المجال لمن هم خاصته لأن مجتمعاتنا هي من ستدفع ثمن توسيد الأمر لغير أهله.

    سيطالبنا بعضهم أن لا نشاهد هذا المسلسل باعتبارنا متنطعين ومفلسفين ومنسلخين عن الواقع! نعم نستطيع بكل بساطة أن نطفئ التلفاز ونمتنع عن مشاهدة هذا الابتذال ولكن مهمتنا ليست أن نحافظ على الجزء الخاص بنا من السفينة لأن اتساع الخرق في أي جزء منها سيغرقنا جميعا.





    [15-05-2019 08:25 AM]
التعليقات حالياً متوقفة من الموقع