الرئيسية مقالات واراء
كتب موفق ملكاوي - كثيرون في العالم الثالث ما يزالون يربطون الثقافة بمجالات الأدب والإبداع الكتابي بصنوفه المختلفة، أو بالفنون على اختلاف أشكالها.
النظرة الضيقة هذه أدت إلى أن تظل الثقافة في مرتبة دونية وهامشية، فالدول وضعتها في موقع من يتعامل مع “معاتيه” لا بد لها من التعامل معهم، خصوصا في العالم العربي الذي رسم صورة مهزوزة للمثقف، وحصره في خانة الأديب، مشكلا له أبعادا سلوكية منفرة، ليقربه من ذهنية المجنون أو المنفصل عن واقعه، أو المتعالي على مجتمعه.
المخيال الشعبي، والدراما، والفهم العام، جذرت مثل هذه الصورة، لكن عملية الحفر والتشكيل لم تكن بريئة في حد ذاتها، بل تم الاشتغال عليها خلال فترة طويلة من القرن العشرين، وهو قرن الثورات الكلاسيكية، والمد القومي، وتشعب الفكر السياسي وتأثر عالمنا به، خصوصا الفكر الماركسي.
من منطلق أن المثقفين اشتغلوا بالسياسة، فقد عمدت السلطة العربية إلى تشكيل صورة نمطية هزلية لهؤلاء، حتى بات المثقف يعرف بهذه الصورة؛ لدى المجتمع، ولدى النخبة السياسية والاقتصادية.
المجتمع الذي عادى المثقف كان أكبر الخاسرين، فقد وضع نفسه في مقابل الثقافة بمعناها الواسع والشامل، وبمعزل عن المثقفين الذين شعروا بالرفض والنبذ، لم يستطع أن يشكل أدوات مقاومة حقيقية لمجابهة السلطة التي تغولت عليه، فظل أميّا بالمفهوم الثقافي، أي في مجال السياسة والاقتصاد والاجتماع والإنتاج والإنتاجية، وفي مجال المساهمة والمشاركة في المجال العام، خصوصا أن السلطة كانت قادرة دائما على إنتاج نخبها، والتي جذرت رفض المثقف الحقيقي عبر تنميطه بالصورة السابقة.
الثقافة نفسها، بما هي إنتاج معرفي يراعي الخصوصية والانفتاح، ظلت تعيش حالة رخوة لم تستطع معها التأثير في البنى الفوقية التي استتب حالها على مدى عقود. “المقاومة” التي فرضتها السلطة و”الثقافة” التي اقترحتها بديلا بأنماطها العديدة ظلت عقبة على الاختراق. فرح المجتمع بإنجازه، ولم يلحظ أبدا أنه عالق في أسفل درجات السلم الحضاري بين الأمم. لكن السلطة ظلت راضية دائما عن منجزها “الإلهائي” الذي هيأ لها إحكام قبضتها على جميع الخيوط داخل الدولة.
في أدبيات السلطة العربية، ظل المثقف خارجيا، أو خائنا، وفي أحسن الأحوال هو غير منسجم ولا يستطيع الانتماء، وظل إنتاجه، سواء كان فكريا أو أدبيا، تهويمات يعبر فيها عن أزمته الذاتية.
الحقيقة أن ما أطلق عليه تهويمات، هي تعبير حقيقي عن أزمة قائمة بالفعل. لكنها أزمة المجتمع الذي رضي بتنميط صورة المثقف بهذه الطريقة المبتذلة، وهي أيضا تعبير عن أزمة السلطة التي رضيت بأن تمتد ممارستها الغبية إلى اليوم، من دون أن تشرك المثقف في حسابات المستقبل والتخطيط له.
اليوم، نحن جميعنا نعيش في أزمة حقيقية، لا أدعي أن سببها فقط تحقير المثقف وتخوينه ووضعه في درجة مجتمعية دنيا، بل تكمن المشكلة في أننا ما نزال “نقدس” النخب الاقتصادية والسياسية التي تعيش عالة على الدولة والمجتمع، بينما ما نزال نهمّش، أو ننظر بدونية، أو بريبة إلى المثقف الحقيقي الذي يستطيع أن يرسم طريقا للخروج من أزمة خانقة للمجتمعات المتقوقعة على نفسها.