الرئيسية مقالات واراء
سأعترف لكم بماذا أشعر بعد ثلاثين عاما من الآن.. وكأنها الآن، سأتحدث عن شعري الأبيض، وعن تجاعيد وجهي وعيناي الحمراوان ونظرتي المرتاعة وخطوتي الأخيرة.
سر رهيب ومسؤولية جسيمة وتعب للحياة ومن الحياة وهم للأبناء ووهم للبنات وخفايا للسنوات الرهيبة ولا يوجد في العمر فسحة، نَفَس لاهث ونبض يكاد لا يُسمع، وذكرى ضبابية قبل سبعين عاما لذلك الشاي الذي شربته عصر ذلك اليوم الصيفي تحت ظل شجرة العنب.. عندما كنت ألهو في ساحة المنزل بين يدي والدي.
وجه يكشف عن مائتي عام من الحياة .. هموم وعطاء فقط دون أخذ من أحد.. كأنما ولدت لأجلهم لا لأجلي، لم أكن لأشكو لأحدهم عن شعوري، كنت أتجلد وأقف أمامهم كأنني بلا شعور.. جوابي لأصعب المصائب.. " ولا يهمك بتنحل إن شاء الله"
وفي اليوم التالي لبضع وسبعين عاما.. لم أخبر أحدا عن حالتي.. سوء هضم وصداع إمساك متكررر وفقر دم وأضراس تالفة متهالكة وضغط في الدم وفي كل مكان.. كأنه انفجار داخلي.. لم يعد هنالك وقت للتساؤل والتأمل فالجواب واضح.. لم يتبقى لي إلا اجتماع أخير بين يديهم لعلها تكون نظرة الوداع.
لم أعد أكترث لارتداء النظارة للقراءة.. وها أنا أنسى مرة أخرى فلم أعد أهتم بالقراءة مثلهم، ولم يعد أمامي وقت للتساؤل والتأمل فكل الإجابات بدأت تظهر أمامي وأراها بعين اليقين.
سألني أحدهم لماذا لا ترد علينا ولا تتحرك.. لا أتذكر هل هو ابني البكر أم ابنه.. فهو يشبه أباه كثيرا، ولكنني استيقظت على نفسي وأنا بين يدي الطبيب.. فحص دقيق للعين، نبضات القلب وضغط الدم وتصوير للدماغ ورسومات كهربائية لكل شيء.. قال الطبيب كل شيء طبيعي.. ولكنه العمر.
سألني الطبيب بعد أن تأكد من استيقاظي.. كيف الحال يا "حجي".. سكتُّ للحظة وأجبته.. الحمدلله.. وسألته: " فكرك يا دكتور أنا مطول"؟ فقال الأعمار بيد الله.. الله يحسن ختامنا وختامك... وهنا تراخت عضلات وجهي المنقبضة واستُبدِلت بابتسامة الملهوف المنتظِر.
رفعت يدي اليسرى ونظرت إلى دبلة الخطوبة التي لا زلت ألبسها ولم أستبدلها لغاية الآن، وقلت في نفسي .. لا زلت أذكر التاريخ.. وراودني سؤال غريب لن يجيبه أحد.. من الذي قال أن التاريخ يعيد نفسه.. هل من المعقول أن أبدأ من جديد.. مستحيل..
ونظرت في التاريخ مرة أخرى.. نظرة سريعة كلمح البصر، فخيلت لي حياتي كأنها غير حقيقية.. حلم وخيال ووهم.. وهنا بدأ تفكيري بالسكوت وعيناي بالسكون، غيبوبة شبه تامة.. حشرجة في التنفس.. فزع وفرح.. تشنج وتصلب.. ثم استرخاء في الأطراف.. وعينان مغمضاتان.. ولكني أرى وأسمع كل شيء.
نبرات صوت مبحوحة وكلمات غير مفهومة.. بدأت بالخفوت شيئا فشيئا كأنها فحيح مخنوق.. شعرت بكل من حولي وهم ينظرون إلي باستغراب وأمل وخوف.. قال أحدهم في تلك الفوضى الزمنية.. قل لا إله إلا الله.. ففتحت عيني.. وقلت هي في نفسي.. وفي قلبي.. واللسان مجرد مرآة..
وشعرت بهم مرة أخرى بعد أن أسلمت واستسلمت.. يتمتمون ويقولون " الله يرحمك والله يرحمه.." عظم الله أجركم.. إنا لله وإنا إليه راجعون..
نعم سأعود من حيث بدأت لتحتضنني أمي الحقيقية وأرتمي بين أخوتي ذرات التراب.. وأستلم شهادتي التي عملت لها.. حالة غريبة لا عهد لي بها من قبل.. وبدأت الأسئلة وبدأ الاعتراف من جديد..