الرئيسية مقالات واراء
الباكي على ما فات وما مضى كالذي ينبش القبور لن يجد فيها إلا عظاما نخرة وترابا ودودا ورائحة منتنة، فالقبر لا يضم إلا الموتى، ونابشه لن يعيد ذلك الميت إلى حياته صحيحا سليما كما يريد أو كما خلقه ربه في أحسن حلة.
العودة إلى آلام الماضي ومصائبه وعيوبه كفتح الجرح المعافى أو كمعالجة مقطوع اليد اليمنى بقطع يده اليسرى ومعالجة المسموم بإعطاءه سما آخر.
النظر إلى الماضي لا يكون إلا للتبصر والاتعاظ لا للتحسر والبكاء والولولة والاستسلام، الاستفادة من تجارب الآخرين وتجاربنا والتعلم من الأخطاء لتجنب الزلل المستقبلي هو الباب الوحيد الذي يجب أن يطرق ويفتح للإفادة فقط لا لغير ذلك.
التحسر والبكاء على عثرات الماضي يتنافى مع العقل والإيمان والرجولة وكرامة الإنسان، بل هو كالوقوف على الأطلال والقبور ومخاطبتها فلا أعدنا إعمارها ولا أرجعنا ميتها إلى الحياة، بل زدنا أنفسنا ألما وخذلانا ومن يرانا سيتهمنا بالجنون لمخاطبتنا ما لا ينفع ولا يضر، والبكاء إنما هو ضرر ومرض وقتل للروح وإخماد للطاقات وسجن للأفكار والعقل وتقييد للإبداع والإنجاز.
البكاء والشكوى والتذمر وندب الحظ لن يخلق لنا حظا جديدا ولا يفتح لنا طرقا نسلكها لنبني حياة أفضل، بل هو انهزام أمام وعود الشيطان.. فالشيطان لا يعد إلا بالفقر والخراب والدمار ولا يصور أمامنا إلا العقبات والخذلان ولا يوسوس إلا بالتسويف والتقاعس والكسل والخمول والجبن أو الخوف من خوض غمار التجارب الجديدة لأننا تعثرنا وواجهتنا بعض التحديات.. البكاء والتحسر توأمان لوالد واحد وهو الشيطان.. فلا يتركك أحدهما حتى يضمن الشيطان هدمك من الداخل وفشلك وتحطمك من الخارج وغرقك بهموم غير موجودة.. يصور لك الفشل في كل باب وكل طريق تطرقه.. يأمرك بنبش القبور لكي لا تغنم إلا بالجيف المنتنة والدود المقزز..
الباكي يلطم خده ويشق ثيابه فيهدر طاقته في ذلك بدلا من إعادة التفكير والبناء من جديد فلا يفوز إلا بحرقة ولذع وألم وخوف.. فيصبح أسوأ مما أمسى ويمسي على خذلان وينام على انكسار وتتحول أحلامه إلى كوابيس.
العودة إلى الماضي واجبة للتدبر والتأمل وأخذ العبرة والاحتياط والحذر، فنكرس الجهود للعمل المستقبلي والحرص على المستقبل فنصلح بذلك الآجال ونزيد من الأرزاق، فلا نتعلق بأوهام المستقبل ولا نتحسر على حماقات وأخطاء الماضي.
البكاء والحسرة والحزن على عثرات الماضي إنما هو نعيب مسحوق وعتاب على الزمن وإنكار لحكمة القدر ومحاولة خرقاء لتغيير الماضي الذي لن يتغير إلا بتغيير مستقبلنا من خلال العمل الجاد والتأمل وبناء الأمل والعمل على ذلك.
تغيير الماضي يحتاج إلى الشجاعة أولا وثانيا وثالثا.. وأن تؤمن بذلك وأن تعلم أن أمرك كله خير وأن الحكمة فيما أصابك من ألم إنما هي من عند الله لتتعلم درسا وتعرف أن الدموع لا تسكب إلا في موقعها كتفريط في دينك وعقلك ليس أكثر.. وتذكر أن بعد الشتاء ربيعا وبعد الليل نهارا وإن مع العسر يسرا.. ولسوف يعطيك ربك فترضى.. فإن رضيت فلك الرضى وإن لم ترض فلن تنال إلا السخط والحسرة والندامة.. وستبكي من جديد دموعا لن تزيدك إلا خسارا..
علمتني الحياة أن الهوى سيل فمن ذا الذي يرد السيولا
ثم قالت: والخير في الكون باق بل أرى الخير فيه أصلا أصيلا
إن تر الشر مستفيضا فهون لا يحب الله اليئوس الملولا