الرئيسية مقالات واراء
يونس سلطان / أخصائي تخطيط استراتيجي وضمان جودة
تعيش بلادنا الشرق أوسطية أزمنةً عصيبةً ابتدأت مع ما سُمي بالربيع العربي وتمثلت على صورة احتجاجات ضخمة ضد الأحوال المعيشية، وانتشار الفساد سواءً الإداري أو المالي، وقد نتج عن هذا "الربيع" إسقاط أنظمة وزعامات وإجبار آخرين على التنحي، وأخرى ما زالت معلقة في دائرة الحروب الأهلية، وتمتّعت القليل من القيادات العربية بالحكمة من خلال إحداث تغييرات سريعة وجذرية في قوانينها أو ما انبثق عنها لاحتواء الشعوب، وأنا هنا لست بصدد الحديث عن نجاعة هذه الاحتجاجات من عدمها، فقد اختلفت نتائجها من بلدٍ إلى أخرى وبدا جلياً أن بعضها سيشهد ربيعاً مزهراً على عكس أخرى تساقطت أوراقها وفقدت جزءاً كبيراً من مواردها البشرية.
لكن عندما نعود إلى أهم أسباب هذا الربيع من وجهة نظر المجتمعات، فسنجد أنّ السبب الرئيسي هو انتشار الفساد متناسيين جذور وأسباب الفساد بعيدة المدى، وهنا يتوجب علينا الرجوع إلى الخلف وتحديداً إلى الأسرة التي لا يختلف الباحثون الاجتماعيون والتربويون على كونها عماد المجتمع، وسيستغرب بعضكم سبب ربطي بين انتشار الفساد والأسرة!!
تعلمنا في كتب مدارسنا أن الفرد هو نواة الأسرة والأسرة هي نواة المجتمع، لكننا حفظنا ذلك ولم نفهمه؛ إذ أننا نعيش تفككاً أسرياً داخلياً ملحوظاً يتمثل في تفكك الروابط العاطفية والاجتماعية والتربوية والفكرية وعدم الانسجام السلوكي ويظهر ذلك على شكل صراع بين أرباب الأسرة لينتقل إلى أفرادها مؤدياً إلى الطلاق والانحراف وتعاطي المخدرات والسرقة وارتكاب الجرائم وغيرها من الظواهر السلبية التي أدت إلى تصدع في أسس العائلة، بل إنّ الإحصائيات تشير إلى تزايد ضحايا حالات التفكك الأسري خلال العقدين المنصرمين!!
إنّ مما لا شك فيه أن ضعف الوازع الديني والتمسك بالقيم والمبادئ المثلى هو أحد المؤديات لهذا التفكك، وصدقوني لن يكون هناك أجمل من الكتب السماوية وأحاديث الأنبياء التي حوت الرؤى وهدفت لهداية البشر وتبيان المنهج الذي يجب اتباعه لجمع هذا التفكك من جديد، فلن نجد لمثلها قوانين محكمة ولا أنظمة وتعاليم واضحة، ولكن وللأسف فإن ما يعصف بالتزامنا بها من أخلاقيات ضالة أدى إلى أن ينجر وراءها الآباء قبل الأبناء لإشباع شهواتهم وهو ما أصفه بالأنانية التي تحول دون الاكتراث بمصير الأبناء بل وتؤثر عليهم ليسيروا لاحقاً على نفس النهج "الفاسد".
كما ويجدر بي في مقالي هذا التحدث عن أحد مسببات التفكك في عصرنا الحديث وهي وسائل التواصل الاجتماعي والتي تُعد سلاحاً ذو حدين، إلا أنّ ما يظهره هذا الاستخدام من نتائج في العالم العربي يدل على توظيفه السلبي، فنجد أنّ هذه الوسائل قد قرّبت البعيد، كما أبعدت الشخص عن أسرته وأبنائه ليصبح في النهاية ضحية عالم افتراضي وهمي تؤدي مضاعفاته إلى خيانة الأسرة لا قدر الله، وكان الأجدى أن يعتدل في استخدامه ومن هنا أؤكد على ضرورة نشر برامج الوعي في المجتمع بما يحث على الإقساط في استخدام هذه الوسائل وبيان أثر الإفراط فيها.
إنّ الأسرة المتكاملة في وجهة نظر علم النفس ليست هي من تكفل لأبنائها الرعاية الاقتصادية والاجتماعية والصحية فحسب، بل هي من تكون قادرة على تهيئة الجو النفسي الملائم لهم، وبناءً عليه يقع على عاتق الأبوين مسؤولية تنظيم الوقت فهي متطلب وليست كمالية، فبدلاً من إضاعة الوقت في استخدام وسائل التواصل الاجتماعي على سبيل المثال، فإنّه من الأجدر بهما تخصيص ساعات من الوقت للجلوس مع أفراد العائلة وتناول الطعام معهم وتبادل الأحاديث ومتابعة تحصيلهم الدراسي والتعرف إلى مشكلاتهم وما يجري بينهم وأصدقائهم لتوجيههم نحو الطريق السليم، بل إنّه يجب أن يكون هناك هدفاً أساسياً لكل عائلة فيما يلي نصه: تنشئة أبناء منتجين قادرين على التفاعل مع المجتمع وإثرائه من خلال المهارات المكتسبة داخل محيط العائلة.
إنّ هناك مؤديات كثيرة للتفكك الأسري، وقد ركّزت في طيّ مقالي هذا على أكثرها ثقلاً وتأثيراً، وعلى كل حال فإنّ ذلك لا يعني حصر مسببات الفساد على التفكك الأسري بل إنّ هناك أسباباً مالية وإدارية واجتماعية أخرى، ولكن التفكك الأسري يبقى هو الجذر الأعظم في بناء مجتمعٍ غير سليم وللأسف تظهر نتائجه على هيئة أشخاص ينتهجون الفساد كأقصر الحلول للوصول إلى منالهم.