الرئيسية مقالات واراء
كتب: فادي الهويدي - شاءت الأقدار أن أقرأ خبرا عن قرب الأفراج عن أحد الأسرى في سجون الاحتلال الصهيوني، من خلال منشور لأحد الأصدقاء عندي، أسير يحمل اسم عائلة جنوبية أردنية وتحديدا من عشيرة الذنيبات المعروفة في الكرك، ليقودني الفضول إلى السؤال عن هذا الأسير، خاصة وأنني قد قمت قبل أشهر قليلة بعمل تقرير صحفي يشتمل على أسماء جميع الأسرى الأردنيين في سجون الأحتلال، ولا أذكر حينها أنه قد ورد على مسامعي اسم هذا الأسير أو اسم عائلته ضمن قوائم الأسرى التي زودت بها.
كان الوقت متأخرا حينها لمراسلة صاحب المنشور، ولشغفي بمعرفة بما تخبئ لي تلك المعلومات والتي كنت أظن أنه اسم قد سقط سهوا من الأسماء التي لدي، بعثت له، ليرد علي في نفس الوقت، مؤكدا أن هذا الأسير هو ابن عمه، أو أحد ابناء عمومته -لا أذكر- فقلت قد تتشابه أسماء العائلات بين شرق الأردن وغربه، خاصة أنني أعرف الترابط المعقد بين عشائر الضفتين والدماء الواحدة التي تجري في شرايين الكثييرين منهم، ليؤكد لي مرة أخرى أنه من ذنيبات الكرك ولكنه لا يحمل اسم العائلة!، ولا حتى الجنسية الأردنية!، وقد أضاف صاحب المنشور اسم عائلته على اسم الأسير في منشوره حتى يوضح مدى علاقة القربى بينهما لمتابعيه.
قادني الفضول مرة أخرى لأسئلة كثيرة، فاختصر علي الصديق وزودني بوسيلة للتواصل مع عائلة ذلك الأسير القاطنة في فلسطين المحتلة.
لم أنتظر كثيرا، ففي اليوم التالي تواصلت مع والد الأسير، ولإشباع فضولي كنت متعجلا بطرح الأسئلة عليه، ليبدأ بسرد قصة والده الغريبة بعض الشيء، لأن من الطبيعي أن نرى عائلات فلسطينية قد هاجرت قسرا من الغرب إلى الشرق، ولكن لم أسمع بهجرة عكسية، من الشرق إلى الغرب، وهنا أتحدث عن مرحلة تاريخية حساسة، وهي فترة احتلال فلسطين.
بدأ محمد أو "أبو رغيد" كما يُكنى باستعراض ما قصه عليه والده، حيث خرج والده عبدالحي ذنيبات لظروف خاصة، من الكرك وتحديدا من قرية الجدَيّدة سنة 1940، دون أن يُخبر أحدا بوجهته، ولم يكن قد بلغ الرابعة عشر من عمره بعد، احتار طويلا بوجهته حتى حطت به الأقدار بمدينة يافا الواقعة على سواحل البحر الأبيض المتوسط، فلا حدود في ذلك الزمان ولا دولة للكيان، وأرض الله واسعة، قد يكون سفر غير طويل بعالمنا الآن، لكنه سفر من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب لطفل قروي لم يعتد أن يخرج من قريته قط، إلا رعيا لأغنام والده بين سهول وجبال بلدته.
أمّا في قريته، فقد بدأ الجميع في البحث عن المفقود، لم يتركوا واديا أو جبلا يعتب عليهم من البحث، وامتدت جهودهم إلى جميع المناطق المجاورة لعلّى وعسى أن يكون هناك أمل في إيجاده، أو معلومة تدل على وجوده على قيد الحياة على أقل تقدير.. ولكن.. أجمع الجميع على غير العادة، أن لم يره أحد، وليتكون عندهم اعتقاد.. بل يقين.. بأن عبدالحي مات، أو بالأدق أخذه السيل ومات.
في يافا، تأقلم عبد الحي سريعا مع الحياة، على غير عادة أبناء القرى في الأردن وفلسطين، فلم يعتد أبناؤها على ضيق الجدران، ورتابة الحياة وتغيير الملبس، ويمكث هناك 8 سنين، ويخرج مجبرا مرة أخرى بعد سقوط المدينة في يد العصابات الصهيونية عام 1948، منتقلا الى قطاع غزة وتحديدا إلى مدينة خان يونس، ليعمل فيها بقطاع الزراعة.
مرت الأيام والسنين سريعا على عبدالحي، جلها كان عند عائلة فلسطينية تدعى "الطبسية"، فقد عاش عندهم أكثر مما عاش عند أهله في "الجديّدة"، وفي عام 1967 احتلت القوات الصهيونية غزة، لتقوم سلطات الاحتلال بعدها بـ"إحصاء النفوس" وهو تسجيل أسماء جميع قاطني القطاع وثبيتها رسميا، ولأن عبدالحي وقتها لا يملك أي ورقة أو وثيقة تثبت اسمه أو نسبه، فقد سجل باسم العائلة التي يعمل عندها طوال هذه السنين، وليصبح اسمه من الان فصاعدا، عبدالحي الطبسية.