الرئيسية مقالات واراء
في إحدى المدن العربية دائماً ما يجلس عدنان على شرفة منزله ؛ ففي الصباح حين تقترب من شرفته بما يكفي ستسمع صوت فيروز كأنها تهمس في أذنيك , وفي الليل وبعد أن يُصلى العشاء في مسجد الحي يجلس مجدداً على شرفته فترى دخان غليونه يتمايل على ألحان أغاني أم كلثوم أو عبد الوهاب وعندها تُزاحم رائحة البن المحوج أريج الريحان والياسمين وباقي المزروعات العطرية التي تُزين شرفته .
نادراً ما تبادلت وعدنان أطراف الحديث الذي غدت شرفته أيقونة الحي ومن معالم الإسترشاد في (Google Maps ) كما مقاهي الشانزليزيه الباريسية ولكن بصبغتها الخاصة , ما ميزه أنه يحفظ القرآن وحُجة في التفسير والفقه المقارن , ومع هذا يرفض أن يؤم المصلين إن غاب إمام المسجد ولا يُطلق لحيته ويعارض أن يحدد الدين نوع لبسه ؛ حداثته ملحوظة رغم وقاره .
شكّلت وسائل الإعلام منذ خمسينيات القرن الماضي جانباً مهماً من بناء الوعي والثقافة العربية وتأدلجت وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية ما بين اليمين واليسار بين التأييد المطلق لأنظمة الحكم وإعلام المعارضة الذي لم يمتلك الإمكانيات ولا التأييد الشعبي المؤثر بل عانى التضييق فلجأ الى الصحف والمجلات المجهولة لنشر قصائد ومقالات المعارضين في المهجر.
وبقيت السينما والمسرح والدراما التلفزيونية العربية بعيدة الى حد ما عن صراعات الحكومات ومعارضيها ؛ فركزت على الكوميديا وجسدت أدب الرواية والمسرح لكن هذا الفن بقي محافظاً على الثوابت القومية متجنباً القضايا التي تُحدث شرخاً في التوافق المجتمعي أو تلك التي تأجج الفتن بين الشعوب والطوائف وعند ظهور المحطات الفضائية وإنطلاق رصاصة سباقها على نسب المشاهدة والأرباح تغيرت الثوابت و إشتعل التنافس بينها بالتزامن مع ظهور منصات التواصل الإجتماعي .
تمحور الصراع في الإعلام العربي الآن حول كسب الرأي العام وتوجيهه , إلا أن الكثير من المحطات والمنصات إنتهجت التدليس وغيبت الحقيقة وصار الفجور في الخصومة سمة مميزة لها , وبذلك جانبت المهنية وإستغلت الميول العنصرية المتأصلة في الوجدان العربي منذ داهس والغبراء , لتصنع على أعينها فرقة العرب مجدداً الى قيس ويمن حتى أنها أقحمت صناعة السينما و الدراما التلفزيونية في خلق رأي عام عماده جمهور لا يمتلك الوعي الكافي ليَميز الخبيث من الطيب حين يدس له السم في العسل .
إن ساد المحتوى الهابط للدراما والسينما العربية ؛ فسيثمر فناً لا يمتلك قضية أو هدف سوى الكسب المادي لمقدمي البرامج والممثلين الذي تحول بعضهم لمهرجين وسلع , علماً أن الأغلبية الساحقة من المستهدفين من هذه الأعمال يدركون يقيناً أن ثقافتهم ووعيهم وعاداتهم ولحمة مجتمعاتهم وثوابتهم مهددة من الذي مَوّل وصنع حصان طروادة الملوّن , ومن مَن إختبأ فيه ليدخل مدنهم محرضاً بلسان عربي مبين وببنات أفكاره معول هدم الثقافة والتاريخ لتحطيم عاداتهم ونقض عرى عروبتهم حتى لا يجد العرب عروة تجمعهم .
أنا على يقين أن عدنان سيبقى يذهب للمسجد مصلياً بين الصفوف , وسيظل يسمع فيروز وأم كلثوم لكني أخاف ان أشتم أريج أزهار شرفته وتتغير رائحة قهوته أو أن يَعتمد (Google Maps ) للعربي مَعّلماً غير شرفة عدنان , متضرعاً لشكوى جيرانه فربما أزعجتهم صباحاً قرع أجراس العودة في صوت فيروز , أو لأجل إكتشافهم المسائي الخارق بأن عبد الوهاب خدعهم بكلمات أخي جاوز الظالمون المدى وسرق لحنها من شركات الإنتاج الحصرية .