الرئيسية مقالات واراء
كنتُ قبل قليل، في الرابعة.. أيُّ رابعة لا أذكر. أسند رأسي الصغير على ركبة أمّي، في عيادة الأنف والأذن والحنجرة في مستشفى الأميري. أسألها أسئلة صعبة، كان آخرها عن سبب بكاء الطفل الذي خرج من عند الطبيب، تجيبُ بضجر رقيق: “لأنه صغير”. وأنا صغير. ثمّ نمت، على هذا الوهم، حتى استفقتُ على رسالة خلويّة تهنئني ببلوغي الرابعة.. أيُّ رابعة لا أذكر.
هكذا يبدو أني كبرت مثل ثورة في يوليو. كنتُ نائماً في عمْر، فصحوت في آخر، الشيب فيه يغطّي نصف لحيَتي تماماً، ولا امرأة تعيّرني بوقار مبكّر (لم يعد مبكراً). أقفُ أمام المرآة، أحدِّثها، فتحدّثني عن فتى حنطيّ خدعه الحبّ لأنّه لم يطالبه بالصدق، فأحبّ ما استطاع الإيمانُ من الامتلاكِ. مرّر الفتى الذي في المرآة كفه على شعْري: الشيب أرعبني وأرعبه؛ كلّ هؤلاء النساء كنّ في رأسي!
ولدتُ قبل خمس حروب. كنت أتمنّى لو أنّي ولدت في العام 1929، على أن تكونَ وفاتي في مثل هذا اليوم في العام 1979. لكنّ أخطاء فادحة في الحساب هي التي جعلتني الآن في الرابعة (أيّ رابعة لا أذكر) في منتصف الحياة التي انتهت مبكراً. فأنا أنتيكا، وكلّ أحلامي في اليقظة هي أن أستطيع حجز مقعدين شاغرين غداً في حفل أمّ كلثوم، وأن أكون طفلا بهيئة عابر سبيل شارد، في مشهد خارجي من فيلم “الخطايا”، أو طالباً جامعياً يتظاهر في المشهد الأول من فيلم “في بيتنا رجل”، في مقدمة سينمائية لثورة 23 يوليو. وولدت بعد خمس ثورات، ولا حلم على الأرض، فمن يروي لي نهاية الفيلم، وسأغفر له “حرق” الدهشة.
لستُ زاهداً كما أبدو، أحياناً تكون لديّ رغبة في الحياة كزعيم يبدأ حكمه في الثمانين من عمره، إن خرجتُ رائقاً من عيادة الأنف والأذن والحنجرة. ليس دائماً، فهذا القلب الخفيف أتوكّأ عليه، وليس لي فيه مآرب أخرى، وثمة ألم هنا، وهناك آلام.. لكنّ المؤلم هذا الإحساس الكاذب بالشفاء. لستُ زاهداً، فلديّ رغبة في أخطاء لم أرتكبها، فالخطيئة الوحيدة التي اقترفتها أنّي حاولت تصحيح الأخطاء، لكنّي في الرابعة (أيّ رابعة لا أذكر) أحتاج ما يحتاج المرضى: هدوءاً وتلفازاً مطفأ أعلى الغرفة..
يقولون “مرض نادر”، فأشعر أنّي المقصود، وبعد التعب لا أخشى على قلبي سوى من فرح مباغت، يدفعني للمشي خارج عيادة الأنف والأذن والحنجرة، وأن أسلّم على الطبيب السلام الأخير، كوداعِ الركاب في محطة ترانزيت بين جهتين مجهولتين، لكنّ العمر، يا أيّها الفتى الذي في المرآة، ليس أكثر من قضيّة خاسرة.. أيهمُّ أن تربحها في الرابعة (أيّ رابعة ليس مهماً)!
هكذا أهنِّئُ نفسي بسلامَةِ الوصول إلى الرابعة (لقد كنتُ هنا يوماً ما)، مثل احتفال قصير بثورة مسروقة، وهكذا ينبغي هذه الليلة أن أقدم على فعل مباغت، فأعلن أنا انشقاقي عنه، ليخرج الفتى من المرآة مفاوضاً العمْر: خذ الأعوام وأعطني الأيام.