الرئيسية مقالات واراء
وكأنّ الشعب اللبناني الشقيق ينقصه المزيد من الأزمات، ولا تكفيه نكبات الاقتصاد والطاقة وانفلات الأسعار وانهيار الليرة والنظام المصرفي! في آخر حلقة من حلقات الأزمات المتكررة التي يواجهها لبنان، لاحت بالأفق ملامح مواجهة طائفية جديدة أبطالها هذه المرة حزب الله وحزب القوات اللبنانية. أعادت تلك المواجهات ذكريات أليمة بأذهان اللبنانيين، الذين ذاقوا الأمرين جراء سنوات من الحرب الأهلية الدموية التي دفع ثمنها لبنان الوطن والشعب. ما حدث تذكير للجميع أن لبنان أبعد ما يكون عن الاستقرار السياسي والأمني الحقيقي، وأن هذا البلد الشقيق وشعبه النبيل ما يزال ضحية لأمراء الحرب وأباطرتها، الذين ما يزالون يتعاملون سياسيا بمنطق الطائفة والفئة ومكاسبهما، لا الوطن اللبناني الجريح الذي يئن من آلام عديدة.
في ظل هذا المشهد المنفلت والصادم، الذي وظفت فيه أسلحة حديثة كتلك الموجودة مع الجيش، هناك فسحة من الأمل تمثلت في أمرين: الأول، أن المتحاربين أنفسهم أكدوا أنهم لا يريدون ولا يسعون لحرب أهلية جديدة، بل إن كليهما اتهم الآخر أنه يسعى لها وأنهم بالمقابل لن ينجروا لها. هذا أمر يدل على إدراك لخطورة ما حدث، وأنه لا يجب أن ينفلت من عقاله. ثانيا، أن الجيش أحكم السيطرة نسبيا، وشكل حالة إجماع بين غالبية اللبنانيين. صحيح أن مليشيات لبنانية أقوى من الجيش عسكريا، وصحيح أن هذا الجيش يحتاج الكثير من التدريب والتسليح، لكن حقيقة أنه شكل إجماعا وطنيا، وأنه تصرف بحيادية واحترافية، تبشر ببذور استقرار وطني لبناني عنوانه ومحوره جيش لبنان الوطني.
محزن ما يحدث في لبنان، والمحزن أكثر أن الأسوأ ما يزال قادما، فلبنان لا بد له من اتخاذ قرارات صعبة اقتصاديا، والدخول ببرنامج إصلاح ضروري وحتمي مع صندوق النقد الدولي، وهذا معناه إجراءات تقشفية، وإصلاحات صعبة، وضبط للنفقات، وزيادة للموارد. والمشكلة أنه سيضطر لعمل ذلك بسرعة وقوة لأنه دخل مرحلة الانهيار، ولا بد من إجراءات تتناسب وحجم الأزمة والمأساة. سيعيش اللبنانيون فترة مقبلة عصيبة حتى بعد أن يدخلوا مرحلة الإصلاح، لأن الإجراءات التي ستتخذ ستحتاج وقتا وصبرا حتى تنعكس على الاقتصاد والاستقرار، وفي تلك الأثناء ستبقى معاناة اللبنانيين ميدانا خصبا للتراشق السياسي الحزبي والطائفي، وقد يتطور ذلك لمواجهات لا تحمد عقباها تنال من استقرار لبنان.
هذا ما يحدث في الدول عندما تعلو مكونات المجتمع وتسمو على هوية الدولة الوطنية، فتصبح الفئة والطائفة والمنطقة أهم من الوطن، تعلو مصالحها على المصلحة الوطنية العليا. هذه وصفة الانهيار والتشظي، تبدد الاستقرار وتطيح بالسلم المجتمعي، ولا مناص من دولة قوية صلبة تطبق القانون بعدالة، وتحتكر استخدام القوة، وتتخذ القرارات بما يحقق المصلحة الوطنية العليا وليس مصلحة الفئة، وتحمي القيم والثوابت الوطنية التي تجمع كافة أفراد المجتمع تحت مظلتها. هذا ما نتمنى أن يحدث في لبنان حتى ينعم بالاستقرار والسلم الأهلي، ويكون عامل استقرار في الإقليم لا عكس ذلك.