الرئيسية مقالات واراء
من المفارقات في بلادنا، أن الحكومات والإدارات العامة للدولة تفرز أحيانا أسوأ ما ينتظره الأردنيون منها، فيما المجتمع المتهم بأنه غارق في “السواد” يفرز أفضل ما يمكن أن نتوقعه منه، هذه المفارقة وحدها تكفي لدحض أسطورة “المجتمع غير ناضج” التي يرددها بعض المسؤولين، قلت أسطورة، والأصح أنها إهانة، ومع ذلك فقد رد عليها الأردنيون اليوم بطريقتهم، كما رد عليها آباؤهم في الماضي أيضا.
جردة الإخفاقات على الطرف الأول أصبحت معروفة، وتمددت نتائجها على مختلف المجالات، الاقتصادية والسياسية والتعليمية والصحية.. الخ، والشاهد عليها – في تقديري – تغييب الكفاءات الأردنية، واستبدالها بآخرين من “الأبناء الناجزين”، أقصد أبناء الذوات والمحظوظين والمؤهلين على مسطرة المحسوبية والمحاصصة وجبر الخواطر، لا على موازين التنافس والأحقية والعدالة.
أما جردة الإنجازات على الطرف الثاني (المجتمع) فقد أصبحت معروفة أيضا ، وإن لم تحظَ بما يلزم من تغطية إعلامية، أو تقدير من قبل المؤسسات المعنية، لا أتحدث هنا عن إنجازات الأردنيين عبر التاريخ الأردني، ذلك لأنه من المخجل التذكير بالأردنيين “الناضجين” الذين اجتمعوا في أم قيس أو الكرك أو معان أو السلط أو عمان لإقامة الدولة وبنائها، أو مئات الشهداء “الناضجين” الذين رووا الأرض بدمائهم، أو “رجالات الدولة ” في الإدارة والسياسة الذين ما زالت مواقعهم شاغرة ولم يملأها أحد.
الأردنيون الناضجون الذين أقصدهم، هم أبناء اليوم ممن سجلوا إبداعاتهم في المحافل المحلية والعربية والدولية، سواء أساتذة في الجامعات العريقة بمختلف التخصصات، أو مهندسون في أكبر الشركات العالمية، أو أطباء في أحدث المستشفيات، أو غيرهم من الشباب الذين أبدعوا في الطب والتقنية والآداب والعلوم والتربية.
لدي عشرات وربما مئات القصص التي سجلها هؤلاء باسم الأردنيين، المجتمع والدولة معا، وكلما أدقق في قصة واحدة منها تخطر ببالي مسألة واحدة، وهي أن مجتمعنا بخير، وأن بعض المسؤولين عنّا، أهدروا الاستثمار في هذه الطاقات، بل وتعمدوا تجاهلها، واستبدالها بمن هو أقل كفاءة، والنتيجة ما نراه ونعاني منه، حين وسّد الأمر لغير أصحابه، ممن “تبرطعوا” في المواقع العامة، ولكي يضمنوا بقاءهم فيها، تقصدوا إخفاء كل نجاح ومحاربة كل مبدع.
لدي قائمة طويلة بأسماء هؤلاء “الأردنيين الناضجين” الذين شرفونا بإنجازاتهم، ربما يصعب حصر أسمائهم وأعدادهم في مقالة (اعتذر عن ذلك)، لكن هل سمعتم عن شاب أردني ابتكر مؤخرا مشروع الطائرة الغواصة، وفاز بالمركز الأول في مسابقة الإمارات للطائرات بدون طيار، أو شاب أردني آخر سجل مؤخرا بجامعة (مينيسوتا) اختراعا لتصميم جهاز يعمل بالأشعة فوق الضوئية لمعالجة السرطان، أو عن أستاذ أردني حصل على جائزة قيمتها ( 750,000 ) من “ناسا” لتطوير نظام تبريد متطور للمركبات الفضائية؟.
هل سمعتم عن” نشامى” آخرين من الأطباء والمهندسين والأدباء الأكاديميين ممن وضعوا بصماتهم على طريق الإنجاز، وحازوا على جوائز عالمية من مؤسسات دولية مرموقة؟
لقد خسر بلدنا وما يزال، طاقات علمية وإدارية، كان يمكن لو وجدت من يقدرها ويستثمر فيها، أن تصنع نهضة أردنية حقيقية، أو أن توقف -على الأقل- هذا النزيف الذي أصاب أداء مؤسساتنا، لا أقصد فقط هؤلاء الشباب الذين ضاقت بهم فرص العمل، وفرص احترام إبداعاتهم و كفاءتهم، فهاجروا أو هربوا، وإنما أيضا آلاف الكفاءات التي ما تزال صامدة ومعطلة، وربما مشكوك في انتمائها (للأسف)، هؤلاء جاهزون لخدمة بلدهم لو أتيح لهم ذلك، وقادرون على تقديم أفضل ما ينتظره الأردنيون من إنجازات تليق بهم.
يا سادة، بلدنا مليء بالكفاءات، ومجتمعنا وصل لدرجة النضج منذ عشرات السنوات، والأردنيون الذين بنوا الدولة قادرون على صناعة نهضتها، ومؤهلون لتشكيل أحزاب وبرلمانات وديمقراطية، يريدون فقط أن تنصبوا أمامهم موازين العدالة عند اختيار القيادات، وأن ترفع عنهم الوصايات، وأن تتوقفوا عن إغراقهم بالفشل، وحرمانهم من حقهم بخدمة دولتهم، يريدون فقط أن تثقوا بأنهم أصبحوا “ناضجين” وقادرين على تحمّل مسؤولياتهم.