الرئيسية مقالات واراء
مع نهاية الحرب العالمية الثانية، أصبحت البحوث في علم النفس الاجتماعي ميداناً خصباً في الولايات المتحدة. وقد قاد هذا الاتجاه الأستاذ كبرت يون – مؤسس مركز البحوث حول ديناميات الجماعات في معهد مساسوتش للتكنولوجيا سنة 1945. وكان أحد العاملين فيه تلميذه السابق ليون فيستنجر (1919 – 1989) الذي انجذب إلى بحوثه، واتخذ من علم النفس الاجتماعي ميداناً له.
في أثناء البحوث التي كان يجريها، لاحظ أن الناس – إجمالاً– يسعون باستمرار إلى تحقيق الانسجام أو الاتساق أو عدم التنافر أو عدم التناقض في حياتهم، وأنهم لتحقيق ذلك يتبنون عادات وروتنيات يلتزمون بها، كتناول الطعام في أوقات معينة، أو اختيار مقاعد (محببة) في سائل المواصلات في أثناء ذهابهم إلى أماكن عملهم، وهكذا، وأنهم لا يستريحون إذا حدث خلل أو اضطراب في هذه العادات أو الروتينات.
وقد وجد فيستنجر الأمر نفسه في أنماط التفكير العادي أو الروتيني في المعتقدات أو الإيمان أو القناعات أو الآراء . ومن ذلك أنه إذا تعرض معتَقد أحدهم أو إيمانه أو قناعاته أو رأيه إلى دليل قوى مضاد، فإنه يشعر بعدم الانسجام أو عدم الاتساق المعرفي /العقلي بينهما (Cognitive dissonance)، وأن الطريق الوحيد للقضاء على عدم الانسجام أو عدم الاتساق أي لتحقيق الانسجام المعرفي/العقلي (Cognitive consonance) يكون برفض الدليل، أو بالتشكيك في مصدره، وربما بإشعال النار فيه كما فعلوا بالبشر والكتب والمكتبات.
لقد تحدثت عن هذا الموضوع في مقال سابق، وها أنا ذا أتوسع فيه قليلاً فأقول: لقد توافرت للأستاذ الباحث فيستنجر سنة 1954 الفرصة لدراسة هذه الحالة، فقد جاء في الصحف أن جماعة مؤمنة (Cult) ادعت أنها استلمت رسالة من السماء تفيد بقيام القيامة في 21 كانون الأول، بفيضان يقضي على الحياة على الكوكب، وان المؤمنين الحقيقيين فقط هم الذين سيتم إنقاذهم من الهلاك.
فرح فيستنجر وزملاؤه في جامعة مينسوتا التي كان يعمل فيها في ذلك الحين، بالخبر، فسافروا لمقابلة الجماعة قبل موعد وقوع الفيضان. وكذلك بعدما فشل التنبؤ. لقد اعتقد فيستنجر أن الجماعة ستعتذر للناس. لكن عدم الانسجام المعرفي/ العقلي الذي أصابها قادها إلى العكس. فقد ادعت أن رسالة أخرى من السماء وصلت إليها تقول: إنه نظراً لتكريس الجماعة وإيمانها القوي فقد تم إنقاذ العالم، وقد ملأها الحماس بصحة إيمانها، كما توقع فيستنجر. أي ان ظهور الدليل المناقض للمعتقَد أو للإيمان أو للقناعة الراسخة عند المرء يؤدي إلى عدم الإنسجام المعرفي/العقلي عنده، فيلجأ إلى الإنكار الشديد للدليل أو إلى التشكيك في مصادره ليحافظ على انسجامه المعرفي أي على معتقده… بدلاً من التخلي عنه. وهو كما ترى التعصب الأعمى بعينه أو الديماجوجية بعينها.
يرى فيستنجر أن تأثير هذه الحالة، أي الشعور بعدم الانسجام والقلق المرافق له، يزدادان إذا كان قد تم استثمار كثير من المال والجهد في المعتقَد… أو القيام بكثير من الأعمال والنشاطات من أجله، أو الشهرة به، وبالتشدد في الإنكار ورفض الدليل. وقد شرح ذلك في الكتاب الذي ألفه عن الموضوع بعنوان: (When Prophecy Fails, 1957).
استنتج فيستنجر أن عدم الانسجام المعرفي/ العقلي أو لتجنبه يجعل المرء شديد التمسك بمعتقداته أو بقناعاته أو برأيه، وأنه من غير المحتمل تغييرها، على الرغم من التناقض القوي بينها وبين الدليل الحاسم. إنه يصبح منيعاً أمام الدليل والحجة العقلانية فلا ينفع معه حوار أو نقاش (فالج لا تعالج). قل له:» إنك لا تتفق معه فيتركك ويمضي. أطلعه على الحقائق والأرقام فيشكك في مصادرها. وحتى لو قَبلَ الدليل فإن عدم الانسجام أو عدم الاتساق بين وضعه في الماضي ووضعه في الحاضر سيبقى يؤرقه.
ينطبق هذا على المؤدلجين المتعصبين. كما يذكرنا بحالات الإنكار الشديدة والمستمرة لتفجيرات القاعدة بنيويورك في 11/9/2001، وبمجازر داعش في الأبرياء المصادفين، أو بذبحهم للمكفرَّين بالسيف، أو باستباحتهم للنساء اليزيديات.. لأنها تثير عدم الانسجام المعرفي/ العقلي عندهم فيرفضون الدليل القاطع عليها الذي تبثه داعش نفسها وتؤكده بالصوت والصورة. ومع هذا يدعون أن ذلك كله مفبرك من المخابرات الإسرائيلية والأميركية.
لقد قدم الأستاذ والمفكر وليد عبد الحي تحليلاً رائعاً لسياسة السلطة الفلسطينية بموجب نظرية فيستنجر ظهر في فيسبوك فابحث عنه لتزيد من علمك في هذا الموضوع.