الرئيسية مقالات واراء

شارك من خلال الواتس اب
    سر الفوضى في انتقام السلطة
    أ.د عبدالله الزعبي

    أحداث اليوم -
    كتب الدكتور عبدالله يوسف الزعبي
    تعجب الفيلسوف الأسباني خوسيه أورتيغا جازيت ذات مرة: بالقول: "إننا لا نعرف ما الذي يحدث لنا"، وهذا تماماً ما يحدث اليوم؛ إذ لا أحد يدري ما يجري للإنسان وللعالم على حد سواء، فيبحث المرء عن حقه في أن يشعر بذلك، وأن يعرف كذلك.
    تتسارع الأحداث تترى وتقصر مسافة الزمن وتضطرب الأشياء في الأرجاء، وتأتي الساعة في الحرب الروسية الأوكرانية المجنونة في خضم وباء ينهك البشرية العصية التي لا تتعض، وذاك بعد انهيارات مالية مدمرة وثورات برتقالية مفبركة ولجوء انساني يثير التعجب ويبعث على الاشمئزاز، ثم تصطحب معها الثورة التكنولوجية المجنونة التي تجهد في أن تستبدل ذكاء الإنسان بذكاء الآلة وتسميه ذكاءً اصطناعياً لتغيير طريقة العمل جذرياً، ومعها سبل العيش وأساليب الحياة بكافة نواحيها ومناحيها.
    يفسر الصحفي والكاتب الفنزويلي نعيم مويزيس ظاهرة الضياع تلك في كتاب صدر حديثاً تحت عنوان"انتقام السلطة"، ترجم إلى 18 لغة، يتطرق فيه إلى الأوقات العصيبة والمضطربة المحفوفة بالمخاطر التي تمر بها البشرية اليوم عبر ربط ظواهر الشعبوية والاستقطاب وما بعد الحقيقة بمحاولة الاحتفاظ بالسلطة أو الاستئثار بها، مستشهداً بظاهرة خروج المواطن في مختلف البلدان إلى الشوارع ليملأ الساحات ويغلق الطرق السريعة ويسد المنافذ ويشل المدن الكبرى تعبيراً عن سخطه وعدم رضاه، دون أن يكون له انتماءٌ عقائدي أو حزبي أو سياسي بالضرورة، حتى في كندا، ذاك البلد الوديع اللطيف الذي سئم فيه سائقو الشاحنات من اغلاقات الوباء فخرجوا يبحثون عن لقمة العيش ويحتجون على رواسب الرأسمالية المستوحشة وجنونها المنفلت التي أضحت تهدد البشرية في كيانها المادي وصحتها العقلية، بل وجودها الكلي.
    يحدد نعيم مويزيس ثلاثة اتجاهات تساعد على فهم ما يجري في العالم وحركة التغيير المتصاعدة في أرجاءه؛ أولها طفرة السلطة والتحول في أصولها ومصادرها، وليس تغير طبيعتها بالضرورة؛ إذ أضحت منذ بدايات القرن الحادي والعشرين، سهلة التناول وهينة الولوج، ولكن يصعب استخدامها بل يسهل خسارتها. يحدث ذلك في كل مكان، بلد كان أو مدينة، في السياسة والثقافة والدين والتجارة والأعمال والمال، ويتجسد في الشركات العملاقة بصورة جلية. وحيثما تكون القوة يصبح اكتسابها أسهل للقادمين الجدد الذين يلعبون حسب قواعد مختلفة، لكنهم سرعان ما يكتشفون أنها ليست كما اعتقدوا؛ إذ يصعب إدارتها وبالتالي غالباً ما يفقدونها بسبب القيود التي تفرضها المؤسسات والتقنيات والاتجاهات العالمية المستجدة على الدوام. لذلك يسعى أصحاب السلطة إلى دفن القوى المنافسة المحتملة في مهدها أو يبثوا أسباب الانقسام في روحها ويخرجوها من موقعها وينتقموا منها ويشتتوا مراكزها. إن أنماط التصادم والتشابك والتأثير المتبادل بين هاتين القوتين، تلك التي تستحوذ على القوة وتلك التي تفككها، تفسر جانباً مما يحدث.
    إن تعميق انقسامات المجتمع عبر استقطاب مجموعات اجتماعية مختلفة تتصادم وتتنافس على السلطة هي ظاهرة شائعة جداً الآن في العالم الغربي تحديدأ وفي معظم الديمقراطيات الأخرى. وهو استقطاب متطرف لدرجة يجعل الحكم واستمراره مستحيلاً حيث يصعب التوصل إلى اتفاق حول الأفكار والترتيبات الأساسية والحفاظ على العقد الاجتماعي الضامن للسلطة، ما يضع النظام الديمقراطي الليبرالي الغربي في خطر وجودي محدق. يحصل ذلك الأمر عبر جيل جديد من الساسة الذين حالما ينتخبون ديمقراطياً يشرعون في تقويض الضوابط والتوازنات التي تحددها من الداخل وعبر أدوات الشعبوية والاستقطاب التي تقوم على فكرة فرق تسد القديمة، ولكن من خلال التقنيات الحديثة والتغيرات المجتمعية والاقتصادية الجديدة، ما يسمح لبروز أوتوقراطية شاملة تستقطب قوى اليمين المتطرف في جميع أنحاء العالم وتضعه في خدمة السلطة.
    ظاهرة ما بعد الحقيقة، كما يوصفها نعيم مويزيس، تقوم كذلك على الدعاية المخادعة وتمثل الواقع بطريقة مغايرة للحقيقة ما يجسد مأزق الديمقراطية الغربية مثلما يعكس طبيعتها. الاعلام المرئي تحديداً يعمل ضد المشاركة والحوار والتواصل المثمر بين قوى المجتمع الأصيلة عبر نشر مزيج من الآراء المتضاربة والاخبار الكاذبة المضللة للتأثير على الرأي العام وإزاحة ضوابط المجتمع وتوازناته العقلية لخلق ظروف تناسب السلطة المستبدة للتلاعب في لوجستيات الديمقراطية والتظاهر بعدم وجودها وزيفها. والمؤسف نجاح تلك المحاولات بالتأثير على الديمقراطيات وتراجعها إلى شبه حالة ركود مقلق على مدى العقد الماضي؛ إذ انخفض عدد البلدان التي يمكن اعتبارها فاعلة في الديمقراطية بينما ازداد عدد الانتخابات التي اصبحت تجرى في كل مكان سعياً وراء شرعية السلطة القائمة، وتجديداً لأسباب بقاءها، وتلك واحدة فحسب من مجموعة الأدوات التي تنتقم بها من خصومها ومن نفسها. انتقام السلطة أينما وجدت يفسر تلك الفوضى العارمة التي تجتاح العالم اليوم، ففي الفوضى يوجد عالم، وفي كل فوضى سر ما.





    [20-03-2022 11:11 AM]
التعليقات حالياً متوقفة من الموقع