الرئيسية مقالات واراء
أحداث اليوم -
كتب: أ.د. عبدالله يوسف الزعبي
رافقتني غيوم الصباح الرمادية جمعة الأسبوع الفائت، من تلاع العلي حيث يقطن الشتاء إلى تلاع الشلالة في أقصى اطراف الشمال، وبرفق حطت بي في حضرة مكان يزخر بالعبقرية، هناك عند المطل المشرف على سد الوحدة؛ إذ يشكو الوحدة ويشجب الخلوة ويود لو يرتقي القمة يروي ويرتوي. رحلة الطريق استغرقت ساعتين، رأيت فيهما عمراً يمضي وسنين تتوالى، جمعت فيهما افكاري بوحدتي وشتات عامين من عزلتي.
كان المسير يرتع بالخضراء والمطر وسائر ألوان الطيف، تماماً كما عهدته في عهد آذار والصبا، والمشهد ينبض بالحياة على استحياء، وحيث أرض قلما تفعل أخذت زينتها، عذراء هي تخجل من الريح، وأغار أنا من الندى حين يلمسها.
جمعة زاكية الأنفاس جمعتني بثلة طيبة من أهل اللغة والهمة، وحديث امتد نصف نهار نثر عبق الشعر وطلاوة الكلمة في أرجاء الروح مع النسيم، من عنترة والحسرة على عبلة ودروس الظلم وذوي القربى وبسالة الفروسية، إلى قيس وليلى وجبل التوباد الشاهد على المأساة، والمتنبي النابغة يخوض غمار الحكمة بأنفة وعلياء، إلى جمال الصحراء والمعلقات السبعة أيام الجاهلية.
انساق الفؤاد مع القافية وحلقت النفس عالياً في ملكوت الأدب وقدسية البسمات، في حضرة قسمات مستبشرة وأوجه التقيها لأول مرة. وعلى وقع مكمورة لذيذة طهيت بأيادي مباركة من خرجا الجود وأنفاس طيبة بهية، اكتمل المساء بجولة جابت جوانب تلال تغوص وهادها في الأيام وتغرق شعابها بأودية سحيقة. اغتسلت عندئذ بطهارة الغروب وزقزقة العصافير وأنين ابن آوي أتى من بعيد. أجلت النظر في الأفق في بعض قرى في المدى القريب، وأقارب وقربى من ذات الدم واللكنة والميلاد، نحتسي الألم والأمل معاً من عين الطبق والمصير، هناك على السفح المقابل لذات الوادي السخيف، رأيت خشخشة الأشواك، بعد أن قرأت عنها وطالعتها منذ ثلاثة عقود وينيف، وعشتها طوال عمر أحمق زيف.
خشخشخة الأشواك تلك صاغها منذ مئوية أليك سيث كركبرايد، مندوب باكنجهام في أرض الانتداب حين تربع على عرش الجاسوسية، وخطها في كتاب، هو ذاته مر من هنا، عبر نفس الواد من تحت المطل، في ذاك العهد يحمل الوعد الخادع، يرسم حدود الاستعمار ويضع الحد الفاصل بين الأخ وأخيه، يفرق القمح عن الشعير، من طبريا الروعة إلى أقاصي وادي السرحان وصحراء ذرفت من ساعتها الدم واللوعة.
خشخشخة الأشواك أسمعها اليوم كل ساعة في أرض الشوك، رغم المتنبي وعنترة والمكمورة وقدسية القسمات، منذ وطأها أليك وقضى منها وطراً، خشخشة تجمد أوصال الروح وتأد الود في براثن الحقد، خشخشة تحبس الحياة في رقدة الجهل على ضفاف الوحدة، خشخشة تأز في مسامعي طوال مسير العودة في العتمة مع صدى ابن آوى في الوادي المقفر الوحيد.