الرئيسية مقالات واراء
لا يمكن فهم صيرورة تطور أي شريحة من المجتمع خارج سياق تطور الدولة والمجتمع ذاتهما، فالمحدد الأساس لمستوى تطور الحركة العاملة الأردنية هو مدى تطور أو تخلف نمط الانتاج، وطبيعة بنية الاقتصاد القائم بالفعل وفي الواقع، فلا يمكن تصور صيرورة خاصة للحركة العمالية بمعزل عن الصيرورة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية للمجتمع، ولا يمكن فهم الأزمة التي تعيشها الحركة العمالية الأردنية خارج سياق الأزمة التي تعيشها الدولة والمجتمع، فهي مرتبطة أشد ارتباطاً بهما، لا بل هي أحد مظاهر تجلياتها وانعكاساً طبيعياً لهما.
فإذا سلّمنا بوجود هذه الأزمة، وهي موجودة بالفعل، فما هي الأسباب والعلل التي تكمن خلف هذه الأزمة؟
مقدمة لا بد منها:
ارتبط نشوء الطبقة العاملة بولادة النظام الرأسمالي في أوروبا الغربية أولاً، ولما كانت الراسمالية هي نظام اقتصادي – اجتماعي محدد، فمن الطبيعي أن تحتل "العوامل الاقتصادية" الشروط المحددة في تكوين هذا النظام، كما كانت عوامل محددة في الأنظمة التي سبقته، وفي المقدمة منها، عاملان أساسيان هما:
1: التراكم الرأسمالي الذي بدأ بصفة خاصة في القرن السادس عشر، جراء النهب الاستعماري الأوروبي الغربي، لثروات ومقدرات وخيرات المستعمرات، في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، الذي امتد عبر القرنين التاليين، السابع عشر والثامن عشر، وهذا النهب لا يزال مستمراً ليومنا هذا بأشكال وأساليب مختلفة.
2: الاكتشافات العلمية والاختراعات التقنية، التي حدثت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وتعاظمت بشكل مضطرد وبسرعة فائقة في القرن العشرين.
بالإضافة إلى " البيئة الثقافية " كعامل مساعد، ولكنها فاعلة ومؤثرة على التطور الاقتصادي، حيث ترتب على حركة النهضة التي بدأت في ايطاليا، ثم سادت أوروبا الغربية، في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، أن نمى الشعور بالحرية الفردية وبمعنى الشخصية الذاتية، وفتحت الآفاق أمام استغلال الطاقة البشرية، وكان لحركة النهضة الأثر الكبير في نشر مفاهيم الحرية وروح المغامرة الفردية، وهما ميزتان أساسيتان للعقلية الرأسمالية، وكان من نتائج تحرير العقل من الغيبيات، تمكنه من دراسة الظواهر المادية والطبيعية والتقنية على أسس علمية. كما وساهمت النهضة في تعميق معاني ومفاهيم حب الحياة ذاتها، وخلق مفاهيم جمالية على كافة الصعد، وربطت التقدم الأخلاقي بالتقدم الاقتصادي، ونمّت الشعور بتقديس العمل، وتمجيد العقل الذي يسعى لتحقيق الربح.
ترتب على تزاوج هذه العوامل مجتمعة، ولادة ما يعرف " بنمط الإنتاج الرأسمالي" الذي يعتمد الآلة "وسيلة إنتاج" والمشروع الصناعي شكل تنظيمي للإنتاج، والحرية الفردية في تحقيق الثروة أيدولوجيا.
جاء هذا التطور في سياق تطور طبيعي: من نظام حرفي إلى صناعة منزلية، ثم مصانع يدوية، حتى انتهى إلى " المشروع الصناعي" القائم حالياً، وقاد هذا التطور في وسيلة الإنتاج وتنظيمه إلى تطور في أحوال القائمين عليه:
• ففي النظام الحرفي، كان الحرفي مستقلاً من جميع النواحي استقلالاً ناتجاً عن ملكيته المشروع الصغير، بكل ما فيه من عناصر الانتاج، رأس المال والمواد الأولية، وفي المراحل الانتقالية من الصناعة المنزلية ثم الصناعة اليدوية، إلى المشروع الصناعي، بدأ الحرفي يفقد استقلاله التدريجي بمقدار ما يفقد من ملكيته لعناصر الانتاج، التي أخذت تنتقل إلى التاجر الذي أصبح صاحب العمل.
• وفي نظام " المشروع الصناعي" تجرد العامل من ملكية كافة عوامل الانتاج، سوى " قوة عمله" ليصبح في موقع التابع الأجير.
وفي هذه المرحلة بالذات، حصل انفصال واضح ومحدد بين طبقتين رئيسيتين تساهمان معاً في الانتاج، وتطور طبيعي متمحور حول تحقيق " الربح" دافعاً ومحركاً، من أجل إحداث " التراكم الرأسمالي" وتنمية وتطوير الاختراعات العلمية، وتعميم ثقافة تستند إلى " أولوية الربح وثانوية قيمة البشر" وهما:
1. الطبقة الرأسمالية التي تمتلك وسائل الانتاج، وتتميز بوحدة مصالحها الاقتصادية، وتشابه مشروعها السياسي - الاجتماعي، وتماثل سلوكها إزاء مختلف طبقات وفئات المجتمع الأخرى، فهم بالضرورة يتخذون تلقائياً موقفاً موحداً، نتيجة لمصالحهم الخاصة، بهدف تحقيق الربح.
2. الطبقة العاملة، التي لا تملك من عناصر الإنتاج سوى قوة عملها فقط، فتضطر لبيعه للطبقة الأخرى، لصاحب العمل، بهدف الحصول على أجر يضمن بقائها على قيد الحياة.
من الطبيعي في ظل هذه المعادلة أن يظهر تعارض حقيقي وتناقض رئيسي بين مصالح هاتين الطبقتين، وهذا التناقض لا يحل إلاّ من خلال تغيير موازين القوى الفعلية القائمة على الأرض، وقد عبر عن هذا التناقض بشكل واضح أحد الرأسماليين بقوله " أن تتشكل وحدة بين الطبقات العليا والطبقات السفلى في المجتمع لأمر مستحيل، تماماً لاستحالة خلط الزيت بالماء، كونه لا يوجد شعور متبادل فيما بينهم، لأن من مصلحة صاحب العمل أن يحصل على أكبر قدر من جهد وعمل العامل مقابل أقل ما يمكن من الأجر".