الرئيسية مقالات واراء
لا يمكن تخيل سياسات الولايات المتحدة الخارجية من دون التدخل في شؤون الآخرين. في واقع الأمر فقد سحبت الولايات المتحدة قواتها من أفغانستان في مشهد فيه الكثير من الغرابة بعدما أدركت بضرورة تخلصها من المأزق الأفغاني الذي لا نهاية له، وتورطت بعدها في حرب بالوكالة ضد روسيا تخوضها على الأرض الأوكرانية، وتسعى للمزيد في محاربة الصين حول تايوان وتهدد إيران. ولكن من أين ستأتي الولايات المتحدة بالمال اللازم لتمويل هذه الحروب. إن الواقع الاقتصادي يشير إلى إتجاه الولايات المتحدة نحو الإفلاس مع تنامي هرم الديون الذي وصل إلى 30.6 ترليون دولار في الأونة الأخيرة. في حين وصل العجز في الميزان التجاري إلى 450 مليار دولار. فكيف تتصرف الولايات المتحدة مع هذه الحقائق والأرقام الفلكية القابلة للزيادة المفرطة في المستقبل القريب. في حقيقة الأمر تعتمد الولايات المتحدة على مصدرين أساسيين لتغطية العجز في موازنتها:
المصدر الأول: يتمثل في الاقتراض من الدول الأوروبية واليابان والصين على شكل استثمارات في سندات الديون الأمريكية، بحيث تغطي هذه الاستثمارات العجز في الموازنة. أما الآن فأوروبا بدورها مأزومة وتعاني من العجز والتضخم المفروض، وغير قادرة على الاستثمار في السندات الامريكية كالسابق وكذلك اليابان وبريطانيا، أما الصين فنتيجة للحرب التجارية التي تقودها أمريكا ضدها فقد بدأت بالتخلص من السندات، كما فعلت روسيا في السنتين الماضيتين.
أما المصدر الثاني هو طباعة النقود غير المغطاة وبكثرة، التي بدأت بطباعتها منذ العام 2008، حيث طبعت الولايات المتحدة من الدولارات بما يعادل 14 ضعفاً، مما كان متداولاً قبل الأزمة العالمية، بحيث تضاعفت الدولارات المتداولة في العالم من 0.8 ترليون دولار إلى 11 ترليون دولار الآن.
هذه الأموال الضخمة التي ضختها الولايات المتحدة في الأسواق زادت من حجم التضخم، فأصبح لا يمكن إبطاؤه الآن، إلا بالكف عن طباعة النقود. وبالفعل فقد توقف الفيدرالي الأمريكي عن طباعة النقود في الوقت الحالي، بينما لجأت المصارف الأمريكية في الآونة الأخيرة إلى رفع نسبة الفائدة على الودائع لاستقدام الأموال من الخارج كأجراء مؤقت لإبطاء التضخم والمحافظة على سعر صرف الدولار كعملة عالمية. ولكن هذا الأجراء لا يمكن إن يُفهم إلا لكسب الوقت لأطول فترة ممكنة، لكنه من الناحية العملية لا يخدم الاقتصاد وغير مجدي، لأن البنوك العالمية بدأت تلجأ إلى هذا الحل المؤقت. فمصر رفعت سعر الفائدة وروسيا قامت بذلك في بداية الحرب وكذلك البنوك الأوروبية ستلجأ إلى ذلك للحد من هروب رأس المال إلى الخارج. ومع نضوب مصادر التمويل لتغطية العجز والنفقات اللازمة للسياسة الخارجية العدوانية للولايات المتحدة فأنها على الأرجح ستلجأ مضطرة إلى طباعة المزيد من النقود وبأضعاف الكميات التي طبعتها سابقاً، وبالتالي سيصل التضخم إلى مستويات أعلى بأضعاف ما هو عليه الآن. فمع ارتفاع النفقات وأسعار الفائدة والعجز والديون ماذا سيحدث للانفاق العسكري.
عادة ما يستخدم الساسة الأمريكيون مصطلح الأمن القومي لاقناع الكونغرس بزيادة الانفاق العسكري، لكن مع تنامي الأزمة الداخلية ستواجه الولايات المتحدة مقاومة داخلية، فما فائدة القواعد العسكرية والاحتفاظ بقوات عسكرية في العديد من البلدان، بحجة الدفاع عن تلك البلدان والأمن القومي في حين أن هذه البلدان لا تنفق من أجل الحفاظ على المصالح الامريكية أي شيء، فإنفاق الدول الأوروبية الأعضاء في الناتو لدعم أوكرانيا لم يكن موازٍ للدعم الأمريكي. ولطالما كان خيار الحرب ضرورة في بعض الأحيان للولايات المتحدة، في حين أن نفس الخيار حالياً هو حماقة ستدفع ثمنها غالياً وستسرع في انهيارها، وانهيار النظام المالي العالمي ونظام الدولار كعملة عالمية.