الرئيسية مقالات واراء
أول من استخدم هذا التعبير هو الجنرال "إميليو مولا"، إبان الحرب الأهلية الإسبانية، وهو أحد قادة الجنرال "فرانكو"، وكان يستعد للزحف على مدريد لسحق الحكومة الجمهورية الثورية، وكان جيشه مكون من أربعة طوابير، وقال حينذاك: إن هناك طابورًا خامسًا يعمل داخل القوات الحكومية، أفراده يؤيدون "فرانكو"، وترسخ هذا المفهوم بعد ذلك، وكان يُقصد به الجواسيس في الحرب الباردة.
يصف مصطلح الطابور الخامس مجموعة من الناس تعمل غالبًا على محاولة محاصرة المدينة من الداخل، وتكون إما في صالح جماعة العدو أو في الدولة. أنشطة الطابور الخامس قد تكون علنيةً أو سريةً، وفي بعض الأحيان تقوم هذه القوات السرية بمحاولة حشد الناس علنًا لمساعدة هجوم خارجي، ويمتد هذا المصطلح أيضًا إلى أنشطة ينظمها العسكريون. يمكن لأنشطة الطابور الخامس السرية أن تنطوي على أعمال تخريب وتضليل وتجسس، يُنفذها مؤيدو القوة الخارجية ضمن خطوط الدفاع بكل سرية.
تعبير الطابور الخامس ترجمة للمصطلح الإسباني "القشتالية"، أو Quinta columna، وهو إشارة ضمنية إلى الجماعات التابعة لـ"فرانكو"، وموالية للملكية، والطابور الخامس بالإنجليزية Fifth column، أتساءل هنا: كم من الطوابير القشتالية تعمل بين ظهرانينا؟
بمناسبة الحديث عن "فرانكو" والحرب الأهلية الإسبانية، هناك قصة جميلة، تعتبر إمثولة للإشارة إلى مقدار ما يتمتع به الثوار بحس وطني وتاريخي:
حاصرت قوات "فرانكو" مجموعة من الثوار تحصنوا داخل متحف، يحوي في أركانه آلاف اللوحات والتماثيل والتحف الفنية التاريخية، تحكي تاريخ إسبانيا. استبسل الثوار، على الرغم من أنهم كانوا جماعة قليلة، ومنعوا جنود "فرانكو" من اقتحام المتحف.
في اليوم الثاني أصدر قائد جند "فرانكو" أمرًا لجنوده بقصف المتحف بالقنابل المدفعية، وتدميره على من فيه، فرفض ضابط كبير تنفيذ الأمر، قائلًا: لن أدمر تاريخ بلادي، فعزله القائد، وجيء بغيره، اقترح إمهال الثوار المحاصرين وقتًا لتسليم أنفسهم، قبل البدء بتدمير المتحف.
اجتمع الثوار، وتدارسوا الأمر، هم يعلمون أنهم سيموتون، سواء بإعدامهم ميدانيًا بعد تسليمهم أنفسهم، أو تحت أنقاض المتحف. الغريب أنهم جميعًا، من دون أي صوت معارض، اتفقوا على تسليم أنفسهم، قائلين: نموت ولا يموت تاريخ بلادنا.
أتساءل: هل من يدمر آثار بلاده يعد من الثوار؟
وهل من يبيع هذه الآثار يستحق أن يكون له تاريخ؟
وهل تستحق السلطة، أية سلطة لا تحافظ على تاريخ بلدها، أن تستمر في السلطة؟
تاريخنا حاضرنا وهو مستقبلنا، والبلاد والمجتمعات على حدٍ سواء من دون تاريخ تمسي كريشة خفيفة من دون جذور في مهب الرياح.
قصة أخرى قرأتها أمس ترويها إمرأة يهودية تجاوزت سنوات عمرها مئة عام، تقول إن يهود فلسطين جهزوا أنفسهم عام 1917 لزيارة وزير المستعمرات البريطانية ونستون تشرشل واللورد بلفور فلسطين، وكان من ضمن برناج الاستقبال حفل تنظمه بلدية تل أبيب، حينما كانت أحد أحياء مدينة يافا وأقرب إلى القرية، احتفاءً بالضيفين.
تضيف العجوز اليهودية أن المنظمين اكتشفوا أن حيَّهم "تل أبيب" خالٍ من الأشجار الباسقة، فقرروا نقل بعض أشجار الصنوبر الكبيرة من شمال فلسطين، وتثبيتها بالأرض – مثل أعمدة الكهرباء والهاتف -.
كان عمر العجوز اليهودية، محور القصة، حينذاك ست سنوات، وكان المطلوب منها تقديم باقة ورد لتشرشل. المهم أن طفلة الأمس البعيد عجوز اليوم انزوت، بعد أن أهدت الضيف الإنجليزي باقة الورد، بعيدًا عن ضجيج الاحتفال، وأسندت ظهرها إلى إحدى شجرات "العيرة"، وإذا بالشجرة تتمايل وتسقط فتطيح بجارتها من أشجار شمال فلسطين المنزوعة عنوة، والشجرة الجارة بدورها تطيح بجارتها، وهكذا دواليك، فخلال دقائق وقعت كل الأشجار.
تعلق العجوز اليهودية على هذا الحدث قائلة: من دون جذور عميقة راسخة داخل الأرض ليس لنا مستقبل!
ثوار المتحف الإسباني اختاروا الموت طوعًا لحماية تاريخهم، والعجوز اليهودية اكتشفت متأخرة أن لا مستقبل لليهود من دون تاريخ.
بينما أطفال فلسطين يرددون: نحن أصحاب التاريخ والجغرافيا وإنا ها هنا باقون. ليخسأ الطابور الخامس، فالمستقبل لنا، ولنا الحاضر ما دمنا امتلكنا التاريخ.