الرئيسية صوتنا
أحداث اليوم -
محمد أبو عريضة
نشر الصديق الدكتور المهندس مراد الكلالدة على صفحته على فيسبوك النص الآتي:
"عندما يصرح دكتور جامعة على الفيسبوك بأنه ناقش ثلاث رسائل ماجستير بيوم واحد، فهذا يعني انه تصفحها ولم يقرأها. وضع حد لهذه الظاهرة التي انتشرت مؤخراً يجب ان يبدأ من هنا، ومن ثم للمراكز" – انتهى الاقتباس من منشور الكلالدة -.
ونشر نموذجًا لإعلانات تروج لها مراكز تجارية حيث توجد الجامعات، جاء فيه أن هذا المركز على استعداد لمساعدة طلاب الدرسات العليا، بخاصة الدكتوراة، في الاستشارات الأكاديمية والمساعدة العلمية للباحثين بإعداد رسائل الدكتوراة كاملة من قبل مجموعة من الباحثين المجربين. والغريب أن هذا المركز صاحب الإعلان على استعداد أن يبدأ بالمساعدة منذ الخطوات الأولى، حتى اختيار عنوان الأطروحة. وفي التفاصيل تفاصيل أخرى يندى لها الجبين، أبرزها عرض محدود المدة عن تخفيضات بنسبة 30% على إعداد رسائل الدكتوراة. لكن الأغرب من كل ذلك أن الإعلان مليء بالأخطاء الإملائية والنحوية، فكيف تقبلون على أنفسكم، يا طلاب العلم، الاعتماد على مراكز لإعداد إطروحاتكم، تخطىء في اللغة العربية؟
في سياق ذي صلة، انتشرت خلال جائحة كورونا، والتعليم عن بعد، مراكز أبدت استعدادها لتقديم الامتحانات الجامعية On line بدلًا عن الطلبة، والغريب أنها حددت أسعار هذه الخدمة، وفقًا للعلامة التي يريد الطالب الحصول عليها.
تخيلوا، أدامكم الله، طالب دكتوراة، لا أحد يعرف كيف نجح في الثانوية العامة، وكيف اجتاز مرحلة البكالوريس، ومن الذي أعد له رسالة الماجستير، ومن هو عضو هيئة التدريس في الجامعة، الذي أشرف على رسالته للدكتوراة. وفي نهاية المطاف، يحمل هذا الطالب درجة الدكتوراة، وقد يصبح عضو هيئة تدريس، ومن المحتمل أن يترفع أكاديميًا، ويصبح أستاذ مشارك، فأستاذ دكتور، وقد تؤهله هذه "المؤهلات" ليصبح عميد كلية و / أو رئيس جامعة، وقد يتبوأ منصبًا أعلى، كالوزارة أو أعلى، وإذا بمصير الشعب بكل أطيافه يتعلق برقبة شخص حصل على كل "العلوم" التي أهلته للمناصب عن طريق مراكز تجارية تبيع "العلوم" كما يبيع بائع الخضار الفجل والجرجير.
وقد يكون قد حالف الحظ صديقنا هذا، صاحب "المؤهلات" العلمية والمناصب الإدارية المرموقة، فاقتنص فرصة إعلان أحد المراكز عن "تخفيضات" على رسائل الماجستير والدكتوراة، وبذلك تكون كل مؤهلاته قد خضعت لمنطق التخفيضات، وليس من المستبعد أن يتعامل مع كل الذين سيصبح لاحقًا مسؤولًا عنهم بالمنطق نفسه، فنجده مثلًا يمنح يوم الامتحان زيادة على علامة الطالب الذي يلبس "قميصًا" بلون قميصه، أو أنه يعطي، حينما يصبح عميدًا لإحدى الكليات، عضو هيئة التدريس تخفيضًا 30% على عبئه الأكاديمي، إذا ما ظل مبتسمًا طوال الفصل، ومن الممكن أن يعلن، حينما يصبح وزيرًا، أنه سيسمح لكل مواطن، لا يعترض على آلية تسعير المحروقات، بالتصوير "سيلفي" معه، حتى لو كان معاليه لابس "كاجيوال"، ويمكن أن تتطور التخفيضات وجوائز الترضية لتصيب كل الشعب، إذا ما أصبح صاحبنا رئيس وزراء.
ما يجري يبرر ما يتناوله الناس في أحاديثهم العادية عن حالة "الأمية" التي أصابت جيلًا بأكمله، جيل لا يعرف لغته الأم ابتداءً، ولا يعرف أساسيات العلوم الأخرى، ولم يتعلم كيف يفكر، وكيف يحل المعضلات المختلفة التي يواجهها، وكيف يخرج من إطار القيود المفروضة، ليبدأ يتعلم.
السؤال الملح الذي ينبغي أن نجيب عنه الآن: هل ما جرى وما يجري من تسليع للتعليم، وتشييء للإنسان، وإسقاط القيم المجتمعية، جاء بالمصادفة أن بترتيب وتواطىء؟
هذا الاستهلال يشكل جزءًا يسيرًا من المشكلة، فالمخفي أعظم، ولعل التذكير بقصة "سقراط" مع تلامذته، حينما طرح عليهم سؤالًا، وبعد أن استمع إلى إجاباتهم عن السؤال، قال لهم: إنكم لا تعرفون، ولكنكم لا تعرفون أنكم لا تعرفون! ومهمتي أن أعلمكم لإوصلكم إلى قناعة بأنكم لا تعرفون، ولكنكم تعرفون أنكم لا تعرفون، حينذاك تتعرفون أنكم جاهلون فتبدأون بالتعلم.
"العلماء"، حاملو الشهادات والألقاب الأكدايمية، وأصحاب الدولة والمعالي والعطوفة والسعادة، لا يعرفون أنهم لا يعرفون، ولا أحد يجرؤ أن يقول لهم إنكم يا "سادتنا" الأجلاء لا تعرفون، وعليكم أن تبدأوا بالتعلم، حتى تتمكنوا من قيادتنا إلى بر الأمان، وإلا غصنا وإياكم في وحل الأيام.