الرئيسية مقالات واراء
م. سمير سعيد المشارقة
أنا لا يمكنني التكهن بما قد تشعر به دودة تعيش تحت الأرض وهي ترى جسدا وضع للتو بجوارها. وليس لدي القدرة على تحديد لغة الخطاب في مجتمع البكتيريا قبل الهجوم على جسد مسجى في قصر أحد النبلاء، لكني ومن باب الظن، لا أتوقع أن يختلف سلوك البكتيريا، لو كان الجسد لأحد "المسخمطين" في هذا العالم. قرأت مقالا لشقيقي الكاتب محمد، عن حادثة وقعت في اللويبدة. ولم أكن أعلم شيئا عن تلك الفاجعة. فأنا ومنذ سنوات لا أشاهد التلفزيون ولا أتابع الأخبار وتوقفت عن التعامل مع كتاب الوجه "الفيسبوك"، بعد أن رأيت ما خلف الوجوه بعد سقوط الأقنعة. وطفقت في محاولات تبدو للآخر دؤوبة، وبالنسبة لي، ليست أكثر من ولادة ثانية بعد نصف قرن من الأولى، ونمط حياة أخرى، علي أن اعتاد عليها. وما وصلت إليه جعلني أشعر أن الموت ليس خيارا مناسبا في الوقت الراهن. ومع أنه يغذ الخطى نحوي، إلا أن عليه الانتظار لأكون جاهزا لاستقباله بما يليق بي عندما يحين اللقاء.
بعد قراءة المقال، بدأت أرى بعض الفيديوهات المنتشرة على اليوتيوب. توقفت عند مقابلة مع أم فقدت أطفالها الثلاثة، ولما وجدت أن العالم مشغول بوفاة الملكة إليزابيث، لم أستطع التخلص من شبح تلك الطوية التي تلبستني وأنا أقارن بين مشهدين. الأميرة آن، عضو فريق الفروسية البريطاني التي كانت متماسكة وهي تمشي في مقدمة المشيعين في الجنازة المهيبة، وما لاح على محيا تلك الأم المكلومة، التي كنت قد انتهيت للتو، من الاستماع لحديثها. وبين ما حدث هنا، وما تبثه القنوات لما يحدث هناك، عادت لتقتحمني تساؤلات غاية في السخافة، عن قدرية الوجود وجبرية الامتحان وطوعية الفقر وعلاقة العدل المؤجل بالظلم المعجل، وكل ما يمكن إضافته للهراء الذي يخطر ببالي دوما.
المتوفاة هناك كانت ملكة، عرفها العالم لسبعبن سنة وبقيت أحد أهم الشخصيات عبر أجيال عدة. إلا أن ما رأيته في وجوه المشيعين لا يشي بتأثرهم لفقدان عزيز. وعلى أية حال، لم أتابع مع العالم، اجراءات الدفن، وسمعت عن فحوى رسالة الملك تشارلز التي كتبها بيده ووضعها فوق النعش، ومررت عرضا بصور بعض المشيعيين الذين توافدوا لوداع الملكة ولا أعرف اذا عزف لحن الرجوع الأول أو الأخير. ولاحظت رباطة جأش الجميع، الأميرة آن التي صمدت أمام تلك الواقعة، والملك الجديد والأمراء. ولم يختلف الأمر عندنا كما ظهر لي من تلك الأم التي بددت كياني وشقت صدري. وفي نهاية الأمر، لم أر من النبلاء تفوقا عليها في شيء، كانت مثلهم، قبلت، طائعة بحتمية الاختفاء لمن قدر له الظهور. وكأنها، وفي حضرة الموت، صدعت للحقيقة الوحيدة التي لم يختلف عليها اثنان؛ على الفاقد لمن ذهب، القبول بقضاء الذي وهب.
من اللقاء الذي شاهدته مع أم الأطفال الثلاثة اليتامى الذين قضوا تحت الأنقاض، ومع الهدوء الذي كانت عليه، لم يمنع عني بكاء سمعت الجدران المهدمة عويله. ولما بدى لي أنها تقاوم هطول العبرات وتضع للصراخ حدا كلما لاحت بوادر الانهيار، كل ما استطعت فعله لها، البكاء عنها حتى تمزقت أحشائي وقد قلبي بين ضلوعي بأن المسيح ليس بيننا اليوم، فيحيي لها زهرات حياتها. وتلونت مقل عيوني بلون دم سال من أنامل أطفالها. ولما قالت أن ما حصل قد حصل، وانتهى الأمر؛ لا يمكن إعادة أطفالي إلى حضني ثانية، وما علي إلا القبول بقضاء الله وقدره، أصابتني جنة وتهدجت أدواجي وتهيهعت فرائصي، وأمام فوضى نشيج الحواس، صمت الكون وسكت العالم عن الكلام المباح.
كنت قد قرأت يوما أنه يمكن كتم البكاء بلصق اللسان بسقف الحلق. لكني لم أجرؤ على فعل ذلك، وأطلقت العنان لرغبة تملكتني في الانفجار، ولو ألصقت لساني بسقف حلقي، لخرج الدمع من حشاشة قلبي وتكفلت أطراف أناملي بالصراخ، ونفثت آذاني نحيبا صاخبا وتررد صدى أنين الأطفال من جبيني ثلاثا قبل أن يرحلوا، وارتطمت همهمات الصغار بجدران جوفي الفارغ. وبعد أن أحسست أن اعوجاجا حل بشريط شيفرتي الوراثية، خرجت لا ألوي على شيء، وتوحدت حواسي التسعة عشر أمام مشهد الأنقاض وما سمعته من امرأة أخرى، وكيف عرفت طفلها المغطى جسده بالركام من قدمه.
رأيت مجموعات صامتة تقف على شرفات البيوت المجاورة، وحفار يغرف من قلوبنا ركام حياتنا، يخلطها بعبراتنا، يذكرنا بأنفاس الراحلين عنا، وهدهات الأمهات الخافتة للعيون الجميلة، لقرة الأعين وأس نور الشمس وسبب الخروج كل يوم لمواجهة ما نالت الحياة منا في الأمس. ورجال يتراكضون لإخراج من استطاعوا الوصول اليه، وآخر يحمل طفلة رضيعة ناجية، وأب تعلو وجهه صدمة بعد أن فقد فلذة كبده، تبوح عيناه لي بما لم يقله فحول الشعراء وبما لم يأت به الكهان في سجعهم.
وكالعادة، وما ان تحط الفاجعة رحالها، حتى تبدأ وسائل التواصل الاجتماعي ببث ما تجود بها القرائح، وتملأ الفصاء عبارات المواساة الجاهزة غب الطلب، في الثناء على صبر الأمهات وسلوان الاباء وأناة من عرف الحب دون سؤال. وعلى الجانب الآخر، تنتشر الأخبار في القنوات عن مشاركات العزاء المكتوبة والمنطوقة للعائلة المالكة في بريطانيا ولشعوب دول الكومونولث، ولقطات مكررة لزعماء كانوا قد هبوا لتقديم واجب العزاء، وإشادات من رعاياهم بهيبة الراعي. وترحل الكارثة هنا مع آخر مشهد من فيلم الركام الصامت، ونقرأ عن محسن تبرع بأيواء الثكالى وآخر بكفالة من تيتم على عجل. ونرى رجلا يسعى حاملا وجبات طعام للمكلومين، ونقرأ عن ميزان حسنات طففه يوما كيال منا، وكلمات مديح لتهدئة الخواطر، ودعاء ممن لا يستجاب دعاءه، وهراءات كثيرة، لا مقطوعة ولا ممنوعة. وتعود الناس من ثم، نحو مصائرها التي صنعت بأيديها، وتعلو طبائعها على تطبع في وقت مستقطع بين مصيبتين، تكمل فيه تمثيليتها الفاشلة. فلا ترى انحطاط شأنها إلا في أوقات فراغها.
ويتنطع مأفون، معترضا على عدالة السماء، فيقول، بأن الأموال التي دفعت لدفن جسد امرأة في السادسة والتسعين من العمر، تكفي لبناء مدينة صغيرة تأوي لاجئين في مرابع صباهم. ولخفة في عقله، لا يعرف أن من يبني تلك المدينة هو من بنى بيوتنا الآيلة للسقوط على رؤوسنا. وأن من تقطعت بهم السبل أحياءا هم موتى تحت أنقاض "عيشتنا" البائسة. وقد يتحفنا آخر بالتشكيك في أهليتنا لممارسة ما يدعى الحياة، مؤكدا خروج أحدهم من سردابه أو نزول آخر من السماء بعصا السحرية، يأخذنا، يطير بنا إلى شانغريلا حيث لا يموت هناك إلا الموت. وينسى، أن الدود والبكثيريا هي الباقية الوارثة. ولا فرق عندها بين جسد كان يكثر صاحبه من تناول الكافيار، أو لم يكن يجد كسرة خبز. وما علينا إلا الانشغال بتجهيز أجسادنا لتقديم وجبة يولم ذوونا بها للذي ينتظرنا تحت التراب. أما العدالة والمساواة وكل هراءاتنا، فلا تحل على الأجساد العائدة، ولا فرق بين من كان كفنه من الحرير أو الأسمال البالية. وليس مهما أبدا إن كان الوافد ممن كان يشترى قارورة الماء بعشرة قروش من دكانة "أبو عطا"، أو من دفع ثمنها خمسة دنانير وهو يتمطى على أريكة في منتجع الغرائب القريب.
في عالم يدفع مبلغا طائلا ليولم لبكتيريا بريطانية، لا تسقط بيوت شيدت قبل مئات السنين على رؤوسهم. أما نحن، فمن الطبيعي أن تنهار بيوتنا، وتسقط السقوف كسفا على قرة أعيننا. فالفقر قرار، وممارسة العوز هواية قسرية، يمارسها من سمح للصوص بقوننة السرقة، وأعطاهم حق اختلاس أسباب الحياة. ولم أستطع يوما أن أفهم كيف لمن يعتقد أنه ولد حرا، أن يفنى عبدا يستأنس بالأصفاد التي صنعها بيديه وظل يدفع اثمانها هو وأبناءه، ولا يعلم، أن أحدا غيره لن يكسر أقفالها.