الرئيسية مقالات واراء
مهدي حنا
جرى تقسيم العالم إلى ثلاثة عوالم في حقبة الحرب الباردة، حين استخدم مصطلح العالم الثالث لأول مرة من قِبل الاقتصادي الفرنسي "ألفريد سوفيه" في مقاله له نشرت عام 1952، في إشارة إلى الدول التي لا تنتمي إلى مجموعة الدول الغربية، وهي دول أوروبا الغربية الرأسمالية، وأمريكا الشمالية، وأستراليا، واليابان، وجنوب أفريقيا، وهي التي تشكل دول العالم الأول، وهي التي أطلق عليها فيما بعد المفكر الاقتصادي المصري سمير أمين الثالوث الرأسمالي، نسبة إلى أوروبا والولايات المتحدة واليابان. أما العالم الثاني فهو يشمل مجموعة الدول الاشتراكية التي تتضمن الإتحاد السوفييتي، والصين الشعبية، ومنظومة الدول الإشتراكية الأوروبية الشرقية.
من هنا جاء تصنيف كافة دول العالم التي لا تنتمي إلى الدول المذكورة في العالمين الأول والثاني على أنها تشكل عالماً ثالثاً، فهي دول نامية كانت قد خضعت للاستعمار الأوروبي ونالت استقلالها، وكانت من ضمنها مجموعة دول عدم الانحياز.
هذا التقسيم كان تقسيماً سياساً واقتصادياً بحتاً جاءت به الأيديولوجية الرأسمالية في فترة الصراع بين الرأسمالية الدولية والأشتراكية في حقبة الحرب الباردة، واستمرت لغاية انهيار العالم الثاني حسب هذا التقسيم التراتبي، وبهذا فقد فَقَد هذا التقسيم تراتبيته وأصبحت هناك حلقة مفقودة في الوسط الذي اضمحل وتحولت دُوله إلى طور أخر ربما.
على أية حال هذا التصنيف لم يكن دقيقاً في الكثير من جوانبه، فهناك بعض الدول الأوروبية على وجه التحديد لم تكن منحازة، وكانت متطورة ومزدهرة أقتصادياً، وكان من غير الممكن تصنيفها من دول العالم الثالث كالنمسا، وايرلندا والسويد وفنلندا وسويسرا وغيرها الكثير من الدول. أما الأن فقد جرى الكثير من التغير على الساحة الدولية، فدول العالم الأول في أفول، فهي لم تعد قادرة على تبوأ مركز الصدارة لا في التصنيع ولا في الإدارة أو حتى الزراعة. والتقسيم السياسي للعالم الثاني تلاشى بانهيار الاتحاد السوفييتي ومنظومة الدول الاشتراكية، وانتقلت دوله بين العالمين الأول والثالث من دون تصنيف واضح. أما ما يطلق عليه بالعالم الثالث فهو أكثر تقسيم ما زال متداولاً من الناحية النظرية في عالم السياسة حتى اللحظة، ولكنه أيضاً عفى عليه الزمان بفضل الأداء والتطور الاقتصادي والقفزات النوعية التي حققها النمو في اقتصاد هذه البلدان. فقد انتقلت الصناعة من الدول الأوروبية والولايات المتحدة إلى الكثير من هذه الدول النامية في جنوب وشرق أسيا، والتي تتمتع بخزان بشري هائل من الأيدي العاملة الرخيصة والكثير من المقومات الأخرى التي ساهمت في انتقال الصناعات إليها، كما هو الحال في اندونيسيا، وماليزيا، وتايوان، وكوريا، أو بعض دول أمريكا اللاتينية مثل، البرازيل، والأرجنتين، والبراغواي، والتشيلي، التي حققت أيضاً نمواً في الناتج المحلي الإجمالي وتطورت سريعاً في العقدين الماضيين، وأصبحت ذات شأن على الرغم من التصاق هذا المسمى بها كدول العالم الثالث أو الدول النامية، "المصطلح" الذي كان في الماضي يشير إلى تخلف هذه الدول مقارنة مع العالم الأول الصناعي. أما الواقع السياسي والاقتصادي الآن يشير إلى عكس ذلك.
على أية حال هذا التقسيم هو تقسيم رأسمالي بحت أبتدعته الرأسمالية في فترة ما، وأصبح لا يتناسب قط مع حجم التغيرات التي طرأت على الساحة الدولية. فالعالم ما زال يعيش في ظل قطبية واحدة منذ انهيار الاتحاد السوفييتي، وتفرد الولايات المتحدة في قيادة العالم والكم الهائل من الخلل الذي نتج عن هذه الحالة غير المتوازنة في الميزان الدولي، عدا الأزمة البنيوية في النظام الرأسمالي الحالي المتهالك، وما ولّده من الأزمات الأقتصادية المتلاحقة، التي كان لها تبعاتها المباشرة على دول العالم الأول، وكثير من دول العالم الثالث في المحيط الرأسمالي.
الخلاصة فإن هذه الدول التي لا زلنا نسميها بدول العالم الثالث قد تطورت كثيراً، وأصبحت خارج إطار هذا التقسيم التراتبي القديم وأصبحت تنافس على تقاسم مناطق النفوذ، خاصة في ظل الاصطفافات العالمية الجديدة التي افرزتها أزمات اقتصادية متلاحقة، أدت إلى صعودها لتصبح منافسة لتكون ضمن الإتلافات الجديدة في عالم متعدد الأقطاب، يكون محوره خارج مركز الدول التي شكلت دول العالم الأول سابقاً، الذي تحكم في مصير البشرية لقرون طويلة. لذا ينبغي إعادة النظر في المفاهيم والتقسيمات التي أصبحت خارج المألوف وخارج إطار الزمن في الوقت ذاته ذاته.