الرئيسية تقارير

شارك من خلال الواتس اب
    القهوة اللذيذة وحكاية تحريمها .. قراءة في الأصل والتكوين

    أحداث اليوم - محمد أبوعريضة
    ارتفعت أسعار البن الخام في الأسواق العالمية خلال الأشهر الماضية بشكل لافت، ما أثر على أسعارها في أسواق التجزئة في معظم دول العالم، ويعود ذلك إلى مشاكل تتعلق بسلاسل التزويد وتكاليف الشحن والتأمين، كأحد نتائح الحرب الدائرة في منطقتنا، والعدوان الإسرائيلي المستمر على الشعب الفلسطيني، وتأثر خطوط النقل البحري، ولا سما في المحيط الهادىء وبحر العرب والبحر الأحمر والمضائق الواقعة في هذا الإقليم.
    لكن؛ للقهوة حكاية وحكايات، حكاية الأصل والبدايات، حكاية من اكتشفها، وكيف وصلت إلينا، وكيف انتشرت في العالم، وحكاية آثرها على أدق تفاصيل حياة البشر، وحكاية جدلية علاقتها بالمقهى، وحكاية تحريمها وإباحة شربها، وحكاية القهوة التركية هل هي تركية أم عربية؟
    البدايات
    لم يكن الراعي الحبشي يعلم، وهو يُجَرِّب نباتًا، كان قد لاحظ أنَّ إحدى عنزاته، تزداد نشاطًا، وتتراقص،وتمأمئ، بصورة هستيرية، كلما أكلت منه، أنَّه يكتشف نبات البُن، الذي أصبح، اليوم، يحتل المرتبة الثالثة، بعد النفط والغاز وتكنلوجيا المعلومات، في القيمة التجارية، وسرعة انتشار تداوله، فوفقًا لإحصائيات منظمة البن العالمية، أنتج العالم، عام 2023، بحدود 170 مليون كيس من البن، سعة الكيس الواحد 60 كغم، قيمتها التقديرية بحدود 200 مليار دولار. والبن، كما المواد الأولية الاستراتيجية الأخرى، يباع في كل دول العالم، ويتناوله، بأشكال متعددة، معظم البالغين من سكان العالم.
    سواء أكان الراعي الحبشي، هو أول مَنْ تناول البن، من البشر، كما تتحدث أسطورة أثيوبية، وفقًا للصحافي الأمريكي "ستيورات لي ألن"، الذي ألف كتابًا، سماه "القهوة .. القوة المحركة للتاريخ"، قال فيه: "إنّ الراعي الأثيوبي، قبل ألف عام، اكتشف ما للقهوة من فوائد جمة"، وكان للراعي عمٌ متصوف، يقضي ليله متعبدًا، فقدم له الراعي تلك الثمار، ولمًا اكتشف أنّ تناول ثمار القهوة يبقيه مستيقظًا، أخذ يقدمها لمريديه، فذاع صيت هذا المتصوف، بفضل القهوة، أو كان المتصوفون في اليمن، أو في مكة، هم أول من عرف القهوة، أو الفرس، أو غيرهم، كما تتحدث مصادر تاريخية كثيرة، فإن الثابت أن القهوة، خلال قرنين، بعد اكتشافها، أصبحت محركًا رئيسًا لأحداث تاريخية، وكان لها دورًا بارزًا في أدق تفاصيل حياة الناس، خاصة في بلادنا وفي أوروبا وأمريكا، على حدٍّ سواء.
    القهوة في اللغة
    لكن، قبل الولوج في تفاصيل ذاكرة القهوة، والمقهى، لا بد لنا أنّْ نجيب عن سؤالٍ مهم:
    هل كلمتا القهوة، والمقهى، سابقتان لاكتشاف ثمار البن؟ أم أنَّ القهوة، والمقهى، كمفردتيَّن، أصبحتا متداولتيَّن، بعد اكتشاف الثمار؟
    بالعودة إلى القاموس المحيط للـ"فيروز آبادي"، الذي عاش في القرن الرابع عشر الميلادي، أي قبل أنّْ تصبح القهوة متداولة، فإنَّ القهوة، هي: "الخمر، والشَّبْعَةُ المُحكَمة ُ، واللبن المَحْضُ ..."، والمقهى هو أحد الأسماء المتداولة، التي تقدم الخمر، ويقول الكاتب الفرنسي "جيرار – جورج لومير"، كما ورد في كتابه: "المقاهي الأدبية من القاهرة إلى باريس": إنَّ القهوة، كما جاء في أحد المعاجم العربية، في نهاية العصر الوسيط، نوع من النبيذ، وسُميت هكذا، لأنها تُوقِفْ شاربها على أقدامه، ويؤكد الجميع أن هذه الكلمة مشتقة KAFA، وهي منطقة في أثيوبيا، يُعتقد أنها موطن القهوة".
    من المؤكد أن المشروب، حسب "لومير"، عُرف أولًا، ثم نُحِتَ له، بعد ذلك، اسم، والمؤكد، أيضًا، وفقًا للكاتب عينه، أنّ جدل تحريم القهوة، كان قد ثار، قبل شيوع الاسم.

    تحريم القهوة
    فهل كان لهذا المعنى للقهوة، في القرنيَّن الخامس عشر، والسادس عشر، دور في تحريم القهوة، في العالم الإسلامي، وفي أوروبا، على حدٍّ سواء؟
    وهل كان لهذا المعنى دور في إكساب المقهى، في الثقافة الشعبية، كمكان عام يجلس فيه عامة الناس، سمعة سيئة، ما زال بعض المحافظين، إلى اليوم، يؤمنون بذلك؟
    يقول الكاتب المصري محمد عبدالواحد، في كتابه "حرائق الكلام في مقاهي القاهرة": "وجاءت قضية تحريم القهوة لتضفي بعدًا غرائبيًا على تاريخ هذا المشروب، وترجع وقائع إحدى قضايا تحريمها إلى مخطوطة يرجع تاريخها إلى عام 1558، للمؤرخ عبدالقادر محمد الجزيري، بعنوان: عمدة الصفوة في حل القهوة"، وتتحدث المخطوطة عن باشا المماليك في مدينة مكة المكرمة خيري بك المعمار باشا، الذي كان قد وجد، في طريق عودته من صلاة العشاء، تجمعًا من الرجال معهم مصابيح، وعند اقترابه منهم، أطفأوها، ما جعله يشك في طبيعة ما كانوا يفعلون، وحينما تحَّرى الأمر، وجدهم يبلعون مشروبًا ما، بنفس الطريقة، التي تُشرب بها الخمر، ففض مجلسهم، وفي اليوم التالي، عقد اجتماعًا مع علماء مكة، لبحث مسألة القهوة.
    يقول الجزيري: "إنّ القضاة فضلوا التعامل مع قضية مشروعية التجمع، ولم يتناولوا مشروعية القهوة، وتركوا للأطباء مسؤولية تحديد هذا الأمر، فأتى المحتسب بطبيبيَّن، شهدا- تحت تهديد المحتسب- بأنّ القهوة ضارة بالعقل والبدن، فأخذ القضاة برأي الطبيبيَّن، وأصدروا حكمهم بتحريم القهوة".
    صحيح أنّ حظر القهوة في مكة لم يستمر سوى عام واحد، لكنه تكرر بعد سنوات في مكة ذاتها، وفي غيرها من المدن العربية والإسلامية، خاصة في القاهرة واستانبول، ولاحقًا في أوروبا، ففي عام 1777، شنّ "فردريك الأكبر" حملة كبيرة لحظر القهوة في بروسيا، دفاعًا عن صناعة البيرة، التي رأى فيها رمزاً للهيمنة الألمانية، لجهة ما أصبح للقهوة من تأثير كبير على الجمهور في أوروبا، وأخذت تنافس المشروبات الأوروبية. حتى في أثيوبيا، وهو بلد القهوة الأصلي، فقد تم حظر القهوة، على أسس دينية، على اعتبار أنه مشروب خاص بالمسلمين، وأثيوبيا بلد مسيحي.
    إلى أوروبا
    اختلفت الروايات، الخاصة بوصول القهوة إلى أوروبا، لكن جميعها تتفق على أن أوروبا عرفت القهوة عن طريق الأتراك، لذا فإن الأوروبيين والأمريكان، وغيرهم من الشعوب، أطلقوا، وما زالوا يطلقون على القهوة العربية تعبير "TURKISH COFFE"، أي القهوة التركية، برغم أنَّ العرب هم أول من شربها، فالأتراك عرفوا القهوة بعد العرب، حسب "لومير"، بحوالي قرن من الزمن.
    أول من تحدث عن القهوة، من الأوروبيين، هو الرحَّالة الإيطالي "فيليس فايري"، الذي زار القاهرة، نهاية القرن الخامس عشر، ولاحظ وجود باعة متنقلين يعرضون القهوة على المارة، ويورد أنه من المؤكد أن القهوة كانت تُباع، أول الأمر، للمارة في الأسواق، ومن ثم تم اختراع المقهى. لكن، وفقًا لعبدالواحد، فإن إنجلترا سبقت باقي الأمم الأوروبية في شرب القهوة، بحوالي مئة عام، وهو ما جعل إنجلترا تسبق أوروبا في النهضة والثورة الصناعية، ففي عام 1680، كانت لندن عاصمة المقاهي في العالم الغربي، وقد افتتح المقهى "الأوكسفوري"، تزامنًا مع حظر، فرضه السلطان مراد الرابع، على تناول القهوة في الدولة العثمانية.
    دور القهوة في التقدم
    يورد عدد كبير من الباحثين، في مئات الصفحات، تفاصيل دور القهوة في تقدم الشعوب والأمم الأوروبية، لكن، لغايات خاصة بالمساحة المتاحة، فإنني سأكتفي بإيراد عدد من الشواهد التاريخية على هذا الأمر، أوردها الصحافي الأمريكي "ستيورات":
    1: يروي "ستيورات" عن مقهى يسمى "لويدز كافي هاوس"، كان ملتقى للبحارة ومُلاك السفن والتجار، حيث كانوا يجتمعون لمعرفة آخر أخبار الشحن، وفي إحدى المرات، راهن أحد الزبائن على أية سفينة، ستصل إلى الميناء، وأيها ستغرق، فإنّْ عادت السفينة لمالكها، يخسر رهانه، ويحتفظ المقهى بالمال، وأما إنّْ غرقت السفينة، فيدفع العاملون في المقهى الخسارة، وتحول المقهى إلى أول مؤسسة تأمين، وحوَّل الزبائن التجار موائدهم إلى مكاتب صغيرة، ثم تخلى أصحاب المقهى عن تقديم القهوة، وأصبح مقهى "لويدز كوفي هاوس"، شركة تأمين "لويدز أوف لندن"، وهي أول شركة تأمين تظهر في التاريخ.
    2: لم يقتصر الأمر، كما يقول "ستيورات"، على مقهى "لويدز"، فقد تحولت العديد من المقاهي إلى مكاتب لأكبر الشركات والتجارات العالمية، كشركة الهند الشرقية، التي كان مكتبها الرئيسي في "الجروزيلم كافيه"، وشركة "شبينج إكستشانج"، التي كانت، في الأصل، مقهى اسمه "بالتك"، بل إنَّ التصميم الداخلي للمقهى البريطاني، كان له أكبر الأثر في شكل مكتب الشركة الحديث، حتى أنه ما زال يُطلق على الساعي في البورصة البريطانية، تعبير النادل "WAITER".
    3: هناك قصة اخرى، تتحدث عن ميلاد الصحافة الحديثة في المقاهي البريطانية، إذ يقول "ستيورات" إنَّ شخصًا يدعى "ريتشارد ستيل"، قرر أن ينشر أهم نمائم المجمع، التي يتم تناولها في المقاهي، فكانت تأتي القصائد من مقهى "ويلز"، والأخبار الخارجية من مقهى "سانت جيمس"، وهكذا دواليك .. من هنا، كما يقول المؤرخ الأدبي الإنجليزي "هارولد راوث"، تَوَلَّد الأسلوب الصحافي في الكتابة، إذ أصبحت الكتابة الصحافية أكثر قربًا لبساطة أحاديث الناس العادية، بعيدًا عن الخطب الأدبية الرصينة. وسرعان ما أصبحت صحيفة "تاتلر"، التي أنشأها "ريتشارد ستيل" أول مجلة حديثة، وبشكل عام، فإنَّ الصحف الحديثة قامت على فكرة المراسلين والأقسام، التي ابتدعها "ستيل"، لمتابعة نمائم رواد المقاهى. أما ثاني أقدم صحيفة لندنية، فهي "لويدز نيوز"، التي نشأت كمجلة حائط في مقهى "لويدز".
    4: ربما تكون الديموقراطية الليبرالية الحديثة مدينة للمقهى اللندني الشهير "TURKSH HEAD CAFFE HOUSE"، حيث ظهر فيه، لأول مرة، صندوق الاقتراع، فقد تم ابتكار هذا الصندوق في عهد "أوليفر العظيم"، لكي يعبر زبائن المقهى عن آرائهم، بشكل آمن، في المسائل السياسية المثيرة للجدل. في ظل وجود جواسيس الحكومة، الذين كانوا يدخلون إلى المقاهي، للتعرف على الخونة.
    قوى الاحتكار
    لكن، هناك وجهُ آخر لصورة القهوة، بعيدة، كل البعد، عن أسهاماتها في تقدم الأمم، وتطور المجتمعات، فقد كان للقهوة دورٌ بارزٌ في إثراء قليلين، وإفقار كثيرين، فهذا "مارك بندرجراست"، كما جاء في كتابه "تاريخ القهوة : وكيف بدلّت عالمنا"، يستعرض الجوانب الاقتصادية في تاريخ صناعة القهوة في أمريكا، والآثار الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية والبيئية، التي لحقت ببلاد كثيرة في العالم، نتيجة لهذه التجارة، ويقول: "منذ بداية عهد السيطرة الأوروبية على تجارة القهوة، ارتبطت مصائر الشعور الإستوائية بأسواق بعيدة عن بلادها، تتسم بالتقلب والتذبذب الشديديّن، وبالتالي لم تعرف هذه البلاد الاستقرار السياسي والاقتصادي، بسبب ما يمكن أن يطرأ على محصول البن، بفعل الأحوال المناخية، أو الاحتكارية، على السواء".
    يبين "بندرجراست" في كتابه، كيف أن شعوب الدول المنتجة للقهوة، خاصة في أمريكا اللاتينية، تعيش في ظل حكومات، تسيطر عليها الأقلية المحتكرة، مدعومة من أمريكا، وذلك لإدامة هيمنة أمريكا على مصادر انتاج البن. ولعل التذكير بأنَّه وصل إلى البرازيل، وهي أكبر منتج للبن، في غضون مئتي عام، أكثر من ثلاثة ملايين إفريقي، للعمل في ممالك البن الخاصة، وفي الوقت عينه، تم جلب خمسة ملايين إفريقي، للعمل في زراعة السكر، بينما لم يصل إلى أمريكا الشمالية، في الفترة نفسها، سوى نصف مليون إفريقي، ما يؤكد ما ذهبنا إليه، من أنَّ القوى الاحتكارية العالمية تعمل جاهدة، منذ اكتشاف أهمية القهوة التجارية، على إدامة هيمنها على مناطق انتاجها.
    مقاهي عمان الأولى .. ملامح عامة
    "لا نعترف بأي انتخابات نيابية على غير قواعد التمثيل الصحيح"، بهذه الكلمات اختتم زعيم المؤتمر الوطني الأول حسين باشا الطراونة، أعمال المؤتمر، يوم الخامس عشر من شهر تموز عام 1928، الذي عُقد في مقهى حمدان، الواقع عند سوق الذهب في ساحة فيصل وسط البلد، لكن للأسف هذه المقهى اختفت في خمسينات القرن الماضي، حينما قررت بلدية عمان ربط شارع الشابسوغ بساحة فيصل، فقبل هذا التاريخ كان شارع الشابسوغ مغلقًا من جهة ساحة فيصل.
    عمان، كغيرها من المدن العربية، التي تأسست، أو عادت للحياة من جديد، مع بدء الدولة العثمانية بالأفول، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، اتسمت بحملها ملامح المدن الكبيرة، كالقاهرة وبغداد ودمشق، وقطعًا، فإن المقهى، بوصفه أحد أهم مفردات هذه المدن الرئيسة، كان حاضرًا، حينما أخذت عمان تنفض عن نفسها غبار أربعمئة عام من النسيان.
    المتاح من المعلومات التاريخية عن عمان، لا يتضمن أية معلومات عن مقاهٍ، أُنشأت فيها، قبل منتصف عشرينيات القرن الماضي، لكن، هذا لا يعني أنها كانت خالية من المقاهي، وبالعودة إلى ثلاثة كتب، تناول مؤلفوها عمان، عند تاسيس إمارة شرقي الأردن عام 1921، هي:
    1: عمان في العهد العثماني – الجزء الأول للدكتورة هند أبوالشعر، والدكتور نوفان رجا السوارية – الجزء الأول -.
    2: عمان .. ملامح الحياة الشعبية في مدينة عمان 1878 – 1948، للدكتور عبدالله رشيد.
    3: ذاكرة مدينة – الجزء الأول - .. أوراق عمان القديمة .. قراءة في عقود الإيجار بين الأعوام 1928 – 1938 للباحث محمد رفيع.
    بإمكاننا الولوج إلى واقع مقاهي عمان، قبل أن تتحول المدينة الصغيرة، أو القرية الكبيرة / عمان، إلى مدينة ضخمة، يبيت فيها حوالي خمسة ملايين إنسان، ويصل عدد المقاهي السياحية فيها، إلى أكثر من ألفي مقهى، بينما تناضل المقاهي الشعبية، قديمها وحديثها، وعددها لا يتجاوز مئة مقهى، للبقاء، وسط منافسة غير متكافئة، مع مستثمرين غربييَّن عن المدينة، وعن ناسها، مدعومين بالقانون، والمصالح المتشابكة.
    مقاهي عمان الشعبية، ومعظمها قائم في وسط البلد، ما زالت تحمل ذاكرة حيّة، عن روادها الأوائل، وعن أحداثٍ كانت شاهدة عليها، خاصة في عقد خمسينيات القرن الماضي، حينما أضحى المقهى، المكان الأفضل للنشاطات السياسية والفكرية، صحيح أن مقاهي عمان القديمة، أو الشعبية، كما تطلق عليها الجهات الرسمية، لتمييزها عن المقاهي السياحية ، ما زالت تزخر بنشاطات أدبية وثقافية وسياسية، لكنها لم تعد تشكل بؤرة الأحداث، كما ظلت لغاية عقد الخمسينيات.
    سأتناول، في عُجالة، عددًا من مقاهي عمان الأولى، اعتمادًا على المراجع، سالفة الذكر، وعلى عدة لقاءات صحافية، عقدتها مع عددٍ من كبار السن، ضمنتها موضوعات صحافية لي منشورة، منها "مقاهي عمان .. حينما تسلب التحولات العميقة طابعها الثقافي"، المنشور في صحيفة "العرب اليوم"، بتاريخ 11 آذار 2006، وموضوع آخر عن مقاهي وسط البلد، منشور في صحيفة "اللواء الأسبوعية، منشور في شهر أيار عام 2011، وثالث عن المقاهي السياحية في عمان، منشور في "العرب اليوم"، في شهر كانون ثاني من عام 2010.
    1: مقهى "ماتيلدا": في أحد أيام عام 1931، ظهرت سيدة أجنبية شقراء أربعينية في مدينة عمان الصغيرة الناهضة، آتية من بيروت، وبعد عدة جولات لها في فضاء المدينة، قررت أن تبدأ أعمالها بمقهى وبار، لكن بشكل أرقى مما هو موجود، فوجدت ضالتها في شارع الرضا، إذ يشير عقد الإيجار، كما جاء في موسوعة رفيع، أن المستأجر هو: "ماتيلدا دمتري سكانا نيس"، والمؤجر: "محمد علي كلبونة"، والمأجور: "سطح أربعة دكاكين مستأجرين من قبل محمد شريم وعفيف كوركيان، والإيجار: ثلاثون ليرة عثماني ذهب، ومدة الإيجار: سنة واحدة وثلاثة أشهر وعشرة أيام.
    مدخل المقهى كان يمر من أمام منزل الشيخ رسلان، لكن هذا الأمر، لم يكن يزعج "ماتيلدا"، ويبدو أنَّه لم يزعج الشيخ رسلان ذاته، فلم يحدث، طوال مدة وجود المقهى والبار، أنّْ اشتكى الشيخ رسلان، من أي من رواده. لكن مقهى "ماتيلدا" أزعج آخرين، بما فيهم أصحاب مقهى "البللور"، الذي كان يقع في شارع السعادة، ليس بعيدًا عن مقهى "ماتيلدا". غير أن أصحاب "البللور" سرعان ما اقتنعوا بنصيبهم، حينما اكتشفوا أنهم غير قادرين على منافسة "ماتيلدا"، بقوامها الممشوق، الدائمة الحضور في مقهاها.
    نجح مقهي "ماتيلدا"، إيما نجاح، ما دفعها للتفكير بتوسيع نطاق أعمالها، فقد أدركت أنَّ عملها، ليس له أي معنى، إن لم يكتمل ويتكامل يخدمات إضافية، فأقنعت الخواجا "أطناس"، والخواجا "جورجيوس" اليوناني، بالقدوم إلى عمان، لافتتاح "تياترو" في عمان، الذي رأى النور، واصبح ذائع الصيت، فالـ"تياترو"، لم يكن يحتاج إلى دعاية، فيكفيه أنَّه أول مسرح في المدينة، وأنَّه قريب من مقهى "ماتيلدا".
    2: مقهى حمدان: أقيم مقهى حمدان في موقع سوق الصاغة الحالي، وكان ملتقى مثقفي عمان، والمثقفين القادمين إلى المدينة للعمل، أو لقضاء أيام فيها، مالك المقهى هو المواطن الفلسطيني حمدان محمد أبوسويد، وأما مالك العقار، فهو محمد خيرو السعودي وإخوانه، وأجرته السنوية، كما يشير عقد الإيجار وفق موسوعة رفيع، 40 جنيه فلسطيني.
    كان مقهى حمدان المكان المفضل للسياسيين للالتقاء، ومناقشة القضايا الوطنية والقومية، وعقد المؤتمرات الوطنية فيه، لكن كان للمقهى جانب آخر، مشرق، يتعلق بفقرات ساهرة، يقدمها الحكواتي، إضافة إلى أنَّه كان ملتقى هواة الخيول، الذين كانوا يجتمعون لتنظيم حفلات سباق الخيول، والاشراف عليها.
    3: مقهى المنشية التحتا: أقيم هذا المقهى في المكان، الذي كانت تقع فيه سينما البتراء، أي قريب إلى مجرى السيل، أواخر عشرينيات القرن الماضي، ومالكها هما محمد نور الترك أبواسماعيل وعبدالله بن حسن الذنيبات، وأما مالكو العقار، فهما توفيق السعودي وسلامة أبوجسار، والمأجور عبارة عن "جنينة المنشية"، الواقعة في الأشرفية –كان يُطلق على تلك المنطقة الأشرفية، ومن ثم أصبح الجبل المواجه لها هو جبل الأشرفية، ويبدو أنَّ الاسم منسوب إلى الأشراف -، والإيجار السنوي 45 جنيه فلسطيني.
    يشار أنَّه يوجد مقهى آخر يحمل الاسم نفسه، هو مقهى المنشية الفوقا، لتمييزه عن التحتا، وكان يقع بالقرب من التحتا، وكان يملكه شخص اسمه قاسم شقير، وكان الناس، أحيانًا، يسمونه باسم صاحبه، واشتهر هذا المقهى بأنَّه كان شعبيًا، وكثيرًا ما أقيم فيه حفلات غنائية، وحفلات السيرك المصري واللبناني، خاصة في نهاية ثلاثينيات القرن الماضي.
    4: مقهى المرحوم: غلطة بسيطة، سببها الركاكة في اللغة العربية، تحولت إلى مزحة، فطرفة، تلهَت بها عمان أيامًا، ثم نستها، بعد أن أعطت ابنها، القادم الجديد للتو، اسمًا جديدًا.
    سأل كاتب البلدية "الجركسي"، وهو يُعبيء عقد ايجار لمقهى جديد عن اسم صاحبه.
    فأجاب الرجل: العبد أسعد محروم.
    فكتب "الجركسي": "العبد بن أسعد المرحوم، من نابلس قاطن عمان".
    عبثًا حاول العبد إقناع الكاتب "الجركسي" بالخطأ في كتابة اسمه، إلا أنَّه لم يفلح، واكتفى بأنَّ أخرج ختمه، ليوقع بجانب اسم المستأجر، وبالفعل طبع الختم بشكل واضح :"العبد أسعد مرحوم".
    المدينة الناشئة عمان، علمت بالطرفة، فأصبحت تطلق على المقهى اسم "المرحوم"، ولم يكن أمام صاحبه، إلا أن يقبل بهذه الطرفة، حتى أنه، بعد مدة، استخرج ختمًا جديدًا، باسمه الجديد: "العبد أسعد المرحوم".
    عدد مقاهي عمان الناشئة، حتى منتصف ثلاثينيات القرن الماضي، لا يتجاوز الثلاثين، أشهرها المقاهي الأربعة، سالفة الذكر، وهناك مقاهٍ أخرى ذاع صيتها، لكن، المدينة سرعان ما نستها، برغم أنها كانت تعج بالرواد لسنوات طويلة.
    المراجع
    1: حرائق الكلام في مقاهي القاهرة – محمد عبدالواحد – الناشر: أطلس للنشر والتوزيع – القاهرة 2003.
    2: المقاهي الادبية من القاهرة إلى باريس – يرار جورج لومير – ترجمة وتقديم د. مي عبدالكريم محمود الناشر:الأهالي للطباعة والنشر – دمشق – الطبعة الأولى 2001.
    3: القاموس المحيط – مجدالدين بن يعقوب الفيروزآبادي الناشر: مؤسسة الرسالة – دمشق 1998.
    4: عمان – ملامح الحياة الشعبية في مدينة عمان – 1878 – 1948- د.عبدالله رشيد- منشورات أمانة عمان 2002.
    5: ذاكرة المدينة – أوراق عمان القديمة – قراءة في عقود الإيجار 1928 – 1938 الجزء الأول – محمد رفيع – منشورات أمانة عمان – الطبعة الأولى 2002.





    [09-03-2025 12:19 PM]
التعليقات حالياً متوقفة من الموقع