الرئيسية
مقالات واراء
في خطوةٍ تحمل أبعادًا سياسية وإنسانية واقتصادية، يُعَدُّ توقيع الاتفاقية التاريخية بين المملكة الأردنية الهاشمية ودولة قطر لتزويد سوريا بالغاز الطبيعي رسالة تضامن وإخاء بين الأمة العربية؛ فهي ليست مجرد صفقة اقتصادية بل فصلٌ جديد في قصة تعاون تتجاوز حدود المصالح الفردية، تُحيي أمل سوريا وتُضيء درب إعادة الإعمار وسط تحديات اقتصادية وإنشائية طويلة الأمد؛ ففي ظل الأزمة التي أدّت إلى نقصٍ حاد في إمدادات الكهرباء، حيث تقتصر ساعات التشغيل في بعض المناطق على ساعتين أو ثلاث ساعات يوميًا، يأتي تدفق الغاز القطري عبر خطوط النقل التي تمر عبر الأردن، ليزيد من قدرة الإنتاج الكهربائي بمقدار 400 ميغاواط يوميًا، هذا التدخل يُعيد بريق الحياة للمواطنين ويُسهم في إرساء أسس التنمية الاجتماعية والخدمية والصناعية، كما أنه يرفع مستوى الخدمات العامة مثل الطاقة والتعليم والصحة والاتصالات، مما يخفف الضغوط المعيشية ويُعزز الاستقرار الاجتماعي والسياسي في سوريا الشقيقة.
على الصعيد الاستراتيجي، تُبرز قطر مكانتها العالمية في سوق الغاز الطبيعي بفضل مواردها الطبيعية الهائلة وتكنولوجيا تسييل الغاز المتطورة (LNG)؛ إذ ترتكز استراتيجيتها على استغلال حقل “الشمال”، الذي يُعد الأكبر عالميًا من حيث الجودة وانخفاض الانبعاثات البيئية، فضلاً عن الاستثمارات الضخمة في تطوير البنية التحتية للطاقة مثل إنشاء مدينة رأس لفان الصناعية، وتوظّف قطر أحدث التقنيات وتحصّل الموافقات الدولية اللازمة لضمان وصول الغاز بأعلى معايير السلامة والجودة إلى الأسواق المستهدفة، مما يعكس مرونتها في مواجهة تقلبات الأسعار العالمية والضغوط البيئية من خلال مشاريع بحثية واستثمارات تهدف إلى تحسين كفاءة الطاقة وتقليل البصمة الكربونية.
وفي الوقت نفسه، يبرز دور الأردن من موقعه الجغرافي الاستراتيجي عند ملتقى طرق التجارة بين آسيا وأوروبا وأفريقيا ليكون حلقة وصل حيوية في شبكة الطاقة الإقليمية؛ مما يتيح له أن يكون جسرًا لنقل الطاقة من دول الخليج إلى الأسواق السورية والإقليمية، فقد استثمرت الدولة بنية تحتية متطورة في ميناء العقبة، بعد مشاريع تحديث شاملة التأهيل للمرافق البحرية وتحديث شبكات النقل والأنابيب، التي قامت بها الهيئة العامة للموانئ الأردنية، لتكون بذلك العقبة الخطوة الأولى الحاسمة حيث يتم استقبال الغاز عبر مينائها ومن ثم استخدمت سفينة التغويز العائمة في عمليات التفريغ والمعالجة الدقيقة، مما يضمن تحويل الغاز إلى شكل مناسب للنقل عبر خطوط الأنابيب البرية إلى سوريا، بدعم من تنسيق دبلوماسي وتكنولوجي الذي يعزز من شرعية العملية ويضمن تطبيق أعلى معايير السلامة والكفاءة.
من الناحية الاقتصادية والسياسية، يمتد أثر مشروع تزويد سوريا بالغاز الطبيعي إلى كونه ركيزة أساسية لتعزيز النمو الوطني، يُتيح المشروع تأمين مصدر طاقة مستقر ومستدام يُمكن الدولة من تطوير بنيتها التحتية وجذب الاستثمارات المحلية والأجنبية، إلى جانب إطلاق مشاريع تنموية جديدة تُحدث فرص عمل وتُحفّز النشاط الاقتصادي، كما يسهم المشروع في فتح آفاق جديدة لنقل التكنولوجيا والخبرات الفنية عبر شراكات مع جهات رائدة، مما يؤدي إلى تطور ملحوظ في قطاع الطاقة ورفع كفاءة الكوادر المحلية.
أما من منظور الفوائد على الأطراف المشاركة، فإن الأردن يرى في هذا المشروع لتحويل موقعه الجغرافي إلى أداة تنموية محورية، حيث يُرفع من الإيرادات الوطنية عبر الرسوم الجمركية ورسوم النقل المفروضة على الغاز المار عبر أراضيه، كما يُتيح المشروع فرصًا استثمارية في تطوير الموانئ والبنية التحتية اللوجستية، مما يؤدي إلى خلق فرص عمل وتنشيط قطاعات النقل والخدمات وتحديث البنية التحتية العامة، إلى جانب تعزيز دوره السياسي والدبلوماسي من خلال فتح آفاق تعاون أوسع مع القوى الدولية ونقل أحدث التقنيات والخبرات الفنية.
وفي الجانب الآخر، ترى قطر في سوريا فرصة استثمارية استراتيجية على المدى المتوسط والطويل؛ إذ يُعد دعم مشاريع الطاقة مثل تزويد الغاز الطبيعي خطوة أولى لتأسيس قاعدة لتوسيع الاستثمارات في مجالات البنية التحتية والصناعة والسياحة وغيرها من القطاعات الحيوية، كما أن المشروع يأتي بتمويل مباشر من صندوق قطر للتنمية، مع آلية لاسترداد التكاليف عبر ترتيبات مالية مثل خصم على أسعار الغاز أو رسوم استخدام محددة، مما يضمن أن تدخل قطر سيبقى ضمن إطار قانوني يحترم سيادة الدول دون أن يؤدي إلى هيمنة شاملة، ويُعزز في الوقت ذاته من نفوذها الاقتصادي والسياسي عبر تدفق صادراتها المتزايد وتطبيق تقنيات تسييل الغاز المتطورة.
.على صعيد الإطارات القانونية، يُعَدُّ المشروع نموذجًا رائدًا لتطبيق المعايير الدولية ضمن بيئة تنظيمية معقدة، خاصةً في ظل العقوبات الدولية المفروضة على سوريا، مما يتصور أن تكون الاتفاقية قد خضعت لصياغة دقيقة تضمن توافقها مع النصوص والأنظمة الدولية للاتفاقيات الثنائية والمتعددة الأطراف في قطاع الطاقة، عبر إدراج بنود ملزمة تُقيّد أي تجاوز للقيود المالية والاقتصادية المفروضة من جهات مثل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.
وإسناد الإطار القانوني إلى معاهدات واتفاقيات أساسية، منها اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار (UNCLOS) التي تُحدد حقوق الدول في استخدام الممرات البحرية والموانئ، واتفاقية نيويورك للاعتراف بقرارات التحكيم الأجنبية وتنفيذها، فضلاً عن معاهدات الطاقة الدولية مثل Energy Charter Treaty، مما يُعزز هذا الإطار من كفاءة عمليات استلام وتفريغ الغاز المسال في ميناء العقبة، ويُوفر آليات فعّالة لتسوية النزاعات عبر لجان التحكيم الدولية والمحاكم المختصة، ما يضمن حل الخلافات بسرعة وعدالة دون اللجوء إلى المحاكم الوطنية.
علاوة على ذلك، يُستلزم الامتثال للنصوص الدولية المتعلقة بالعقوبات الصادرة عن مجلس الأمن والتشريعات الوطنية للدول المانحة، مما يحتم الحصول على الموافقات اللازمة لتجاوز العقوبات المفروضة على سوريا، ويضمن بذلك حماية الاستثمارات وتوفير آليات واضحة لحل النزاعات في قطاع الطاقة.
إلى جانب ذلك، يتصور أخذ التشريعات الوطنية في الأردن وقطر وسوريا بعين الاعتبار، فمن ناحية تخضع عملية استيراد وتفريغ الغاز في الأردن لقوانين الطاقة والمواصلات التي تنظم تشغيل الموانئ وشبكات النقل والبنية التحتية للطاقة، أما عن قطر، حيث يتم تمويل المشروع وفقًا للتشريعات الخاصة بالاستثمار الدولي وقوانين النقل واللوجستيات التي تحدد معايير تسييل الغاز وتصديره، وتوفر ضمانات للمستثمرين من خلال صندوق قطر للتنمية، أما في سوريا، رغم التحديات القائمة، فإن نصوصًا قانونية تهدف إلى تنظيم استقطاب الاستثمارات وتطوير قطاع الطاقة تُعد جزءًا من جهود إعادة الإعمار وتحسين خدمات الكهرباء، وبذلك يتم تشكيل إطار قانوني يضمن حماية الاستثمارات وتوفير آليات واضحة لتسوية النزاعات وحماية مصالح جميع الأطراف.
وفي ظل تعقيدات المشهد الإقليمي والاضطرابات في الشرق الأوسط، تظهر الموافقة الأمريكية على المبادرة التي قد يُنظر إليها على أنها إجراء شكلي غير ضروري، كخطوة استراتيجية تهدف إلى ضمان الشفافية والالتزام بالمعايير الدولية، فهذه الموافقة تُساعد على حماية المشروع من المخاطر الدبلوماسية والإدارية وتُضفي عليه بعدًا من الشرعية الدولية، مما يعزز الثقة بين الأطراف المشاركة ويفتح آفاقًا للاستثمارات والشراكات المستقبلية دون أن يتحول إلى أداة للهيمنة.
ختامًا، تُشكّل هذه الاتفاقية منصة شاملة تجمع بين السياسة والاقتصاد والتكنولوجيا والإنسانية، لتكون رسالة سامية تعكس روح التضامن العربي، وتعيد للأمة السورية أمل الاستقرار والتنمية، إنها خطوة استراتيجية تُعيد رسم ملامح التحالفات الإقليمية، وتفتح آفاقًا جديدة للاستثمارات والشراكات، مما يمهد الطريق لبناء مستقبل أكثر إشراقًا واستقرارًا لكل الأطراف المعنية في المنطقة.