الرئيسية
مقالات واراء
في شهر أيار/ مايو الماضي وفي إطار التحضيرات لانعقاد القمة العالمية للإعاقة في برلين، شهدت العلاقات الأردنية-الألمانية تطوراً ملحوظاً تمثل في توقيع اتفاق تاريخي يقضي بشطب نحو 5 ملايين يورو من الديون المترتبة على الأردن. الهدف من هذه الخطوة هو توجيه هذه الأموال لدعم التعليم الدامج في المملكة، بما يعزز البيئة التعليمية في المدارس الحكومية ويخدم تعزيز حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة. هذه المبادرة تمثل نقلة نوعية في ربط ملف الدين العام بقضايا التنمية المستدامة، لاسيما تلك المتعلقة بالإدماج الاجتماعي والتعليم العادل.
توجيه الأموال المحررة من الديون نحو تطوير التعليم الدامج لا يعد مجرد التزام دولي فحسب، بل هو خطوة تعكس الإرادة الوطنية الحقيقية للأردن في تنفيذ القانون الأردني رقم 20 لعام 2017، وتنفيذ الخطة الإستراتيجية العشرية والخطة الإستراتيجية للمجلس الأعلى لحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة وهذه التي تمثل التشريعات والسياسات التي تضمن الحق في التعليم الدامج للأشخاص ذوي الإعاقة. ينص هذا القانون على ضرورة توفير البيئة المناسبة والتيسيرات اللازمة لتسهيل دمج هذه الفئة في النظام التعليمي الوطني.
من خلال هذا الاتفاق، يسعى الأردن إلى إحداث تغيير جذري في بيئة المدارس الحكومية، عبر إزالة الحواجز المادية والنفسية، وتوفير الموارد التي يحتاجها المعلمون والإداريون لبناء قدراتهم وتمكينهم من تقديم تعليم شامل. كما يسهم في ضمان مشاركة الطلاب ذوي الإعاقة في العملية التعليمية دون أي تمييز، ما يعزز من فرصهم في التعلم والمساهمة في المجتمع.
يمثل هذا النموذج الأردني خطوة رائدة نحو إعادة التفكير في الدين العام، حيث يمكن تحويله من عبء اقتصادي إلى أداة استثمارية لدعم القطاعات الحيوية مثل التعليم والصحة والحماية الاجتماعية. بدلاً من التركيز على خفض الأرقام فقط، يُمكن توجيه الديون بشكل تنموي لتحقيق الأهداف الاجتماعية والتنموية. هذه المقاربة تفتح الباب لإصلاحات في سياسات الإنفاق العام، وتحرر الموازنات العامة من عبء الديون، مما يتيح تخصيص مزيد من الموارد لتحقيق التنمية المستدامة.
تعد مبادرات شطب الديون أو إعادة هيكلتها من الأدوات المهمة التي استخدمتها بعض الدول العربية لدعم القطاعات التنموية الحيوية، بما في ذلك التعليم. على سبيل المثال، وقع الأردن اتفاقاً مع ألمانيا في مايو 2024 لشطب جزء من ديونه لصالح تعزيز التعليم الدامج للأشخاص ذوي الإعاقة. كما قامت مصر والسودان والمغرب وتونس بتوجيه موارد شطب الديون لتحسين التعليم والصحة، مما ساعد على تحسين البنية التحتية التعليمية في المناطق النائية وتحقيق أهداف التنمية المستدامة. هذه المبادرات تظهر كيف يمكن تحويل عبء الديون إلى فرص استثمارية لدعم العدالة الاجتماعية والتنمية الشاملة.
الحملة العالمية للتعليم والحملة العربية للتعليم للجميع قامتا بتنفيذ العديد من الأنشطة والحملات التي تركز على قضية شطب الديون لصالح التعليم والتنمية المستدامة. ففي إطار حملتها "البحث عن الديون وتمويل التعليم"، عملت الحملة العالمية للتعليم على تعزيز الوعي حول أهمية إعادة توجيه الأموال المحررة من شطب الديون نحو قطاع التعليم، وخاصة في الدول النامية التي تعاني من ضغوط مالية كبيرة. أما الحملة العربية للتعليم للجميع فقد أطلقت حملات في عدة دول عربية تحت شعار "إلغاء الديون لصالح مستقبل التعليم"، حيث نظمت فعاليات توعوية ودراسات حول تأثير الديون على التعليم، بهدف الضغط على الحكومات والمؤسسات الدولية لتخصيص موارد أكبر لدعم التعليم وتحقيق أهداف التنمية المستدامة في المنطقة. هذه المبادرات تهدف إلى تغيير السياسات المالية بما يضمن تحقيق العدالة التعليمية لجميع الأطفال والشباب، بغض النظر عن خلفياتهم الاقتصادية والاجتماعية.
مقاربة حقوقية في النظرية التنموية لشطب الديون
يشكل هذا التوجه نماذج جديدة في التعامل مع شطب الديون، حيث يُنظر إليه كاستثمار في العدالة الاجتماعية والمساواة. من خلال ربط هذه الخطوات بأهداف التنمية المستدامة، وتحديداً الهدف الرابع المتعلق "بضمان التعليم الجيد والمنصف والشامل للجميع"، والهدف العاشر الذي يعنى "بتقليص أوجه عدم المساواة"، يصبح شطب الديون ليس فقط حلاً مالياً، بل جزءاً من عملية تحقيق العدالة الاجتماعية والحقوق الإنسانية.
في إطار المقاربة الحقوقية، تتجاوز قضية شطب الديون في الوقت الراهن مجرد إزالة الأعباء المالية المباشرة المرتبطة بالقروض، لتشمل أيضًا شطب فوائد الديون التي تمثل عبئاً اقتصادياً ثقيلاً على الدول المثقلة بالديون. فهذه الفوائد، التي تتراكم على مر السنوات، تشكل تهديداً حقيقياً لاستقرار الميزانيات العامة، إذ تُسهم في استنزاف الموارد المالية التي كان من الممكن تخصيصها لدعم البرامج التنموية الحيوية. هذا الاستنزاف لا يُعد فقط تحدياً اقتصادياً، بل هو تهديد مباشر لتنفيذ حقوق الإنسان، وعلى رأسها الحق في التعليم، الذي يعتبر حجر الزاوية لتحقيق العدالة والمساواة في المجتمعات.
علاوة على ذلك، فإن هذه الفوائد المستحقة تؤثر بشكل غير مباشر على القطاعات الأكثر حاجة، خصوصاً الفئات الهشة والأكثر عرضة للإقصاء، مثل الأشخاص ذوي الإعاقة والفئات المجتمعية الضعيفة. فقد تُحرم هذه الفئات من الاستفادة من الموارد المالية التي كان من المفترض أن تساهم في تحسين أوضاعها، وتعزيز فرص التعليم الدامج، والتمكين الاجتماعي.
من هنا، فإن شطب فوائد الديون، إلى جانب الديون الأصلية، يمثل خطوة أساسية نحو إعادة توجيه الموارد المالية لخدمة القضايا التنموية التي تضمن إعمال حقوق الإنسان، وتعزز من قدرة الدول على تحقيق التنمية المستدامة. هذا التوجه يتيح للدول تحويل الأعباء المالية التي كانت تثقل كاهلها إلى فرص استثمارية حقيقية، تساهم في تحقيق العدالة الاجتماعية، وتمكين الفئات الأكثر ضعفًا من التمتع بحقوقهم الأساسية.
إطلاق حوار دولي حول آليات شطب الديون، لاسيما في مجالات التعليم الدامج، أصبح ضرورة ملحة في ضوء ما تطرحه القمة العالمية للإعاقة من أهداف ومسؤوليات.
تتجلى الفائدة الأكبر لهذه المبادرات في التأثير المباشر على تحسين حياة الأشخاص ذوي الإعاقة، لاسيما الأطفال. يمنحهم هذا التوجه فرصاً متساوية للالتحاق بالتعليم والمشاركة الكاملة في المجتمع، مما يفتح أمامهم أفقاً أوسع للتمكين والاندماج. التعليم، كأداة تمكين، يُعدّ المدخل الرئيس لتحقيق الاستقلالية والكرامة، ولا يمكن تصور أي عملية تنموية بدون ضمان التعليم الدامج كأحد أركانها.
كما أن هذه المبادرات تعزز من ثقة المجتمع الدولي في قدرة الأردن على توظيف المساعدات والموارد لصالح القضايا الحقوقية الهامة، وتدعم الحراك الحقوقي المحلي للمطالبة بتوسيع هذه السياسات وضمان استدامتها في المستقبل.
التوصيات
1.تعزيز نموذج شطب الديون لأغراض تنموية، من خلال تشجيع الجهات المانحة والمؤسسات المالية الدولية على اتباع هذا النهج في قطاعات أخرى
2.تحقيق الشفافية والحوكمة، عن طريق ضمان توجيه الموارد الناتجة عن شطب الديون نحو مشاريع تُحدث فرقاً ملموساً في حياة الفئات المستهدفة.
3.استدامة التعليم الدامج، بضمان استمرارية تطوير بيئة تعليمية دامجة من خلال التشريعات والسياسات التي تكرس حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة.
4.دعوة الدول النامية لاعتماد مقاربة تنموية وحقوقية في مفاوضات الديون، بما يربط بين الإصلاح المالي والتقدم الاجتماعي.
5.توجيه سياسات المنظمات الدولية ومؤسسات المجتمع المدني والقطاع الخاص نحو تبني المبادرات التي تؤثر على سياسات الديون وفوائدها وشطبها لمصلحة القضايا الإنسانية
6.تشكيل افرقة عمل خاصة على المستوى الوطني والإقليمي والدولي للبدء بمرحلة التأثير على صناع القرار للقبول بمبادئ شطب الديون والفوائد من اجل التنمية واستخدامها في التفاوض امام الجهات المانحة والمقرضة.
إن تخفيف عبء الديون من خلال هذه المبادرات يُعد خطوة استراتيجية نحو تعزيز التنمية المستدامة عبر تبني مقاربات حقوقية تضمن التعليم العادل للجميع. الأردن من خلال هذه المبادرة لا يسهم فقط في تحسين جودة التعليم، بل يضع حجر الأساس لاقتصاد أكثر عدلاً وشمولاً، مما ينسجم مع المبادئ التي أُقرّت في القمة العالمية للإعاقة ويدعم الجهود العالمية لتحقيق أهداف التنمية المستدامة لعام 2030.