الرئيسية مقالات واراء
لعمرك ما ضاقت بلادٌ بأهلها
ولكنّ أحلام الرجال تضيق
ثمّة معركة كبرى نخسرها اليوم بجدارة، تتوارى وراء الحروب الداخلية العربية الراهنة، وهي معركة القيم التي تمثّل العنوان الحقيقي لأي انتصار أو هزيمة، لدى أي مجتمع أو دولة في المعمورة!
ما هو أبشع من الجرائم والقتل وسفك الدماء والذبح على الهوية، ما هو أخطر من البراميل المتفجرة والتعذيب واستباحة المحرمات؛ هو استباحة القيم، وتفجير المنظومة الأخلاقية لدى الشعوب، فيصبح القتل أمراً طبيعياً يومياً، والإذلال أمراً مستساغاً وغير مستغرب!
المعركة الكبرى التي نخسرها، هي معركة قيم التسامح والتعددية الدينية والثقافية، والتعايش والمواطنة، ودولة القانون والحريات الدينية والفردية. فما ينتج عن هذه الحروب البشعة هي قيم نقيضة تماماً لذلك؛ قيمة التعصب، والتكفير، والكراهية، والتخوين، ورفض الآخر. والثقافة هي ثقافة الشتم والتحريض والتجنيد العاطفي الغرائزي.
هزيمة القيم الحضارية المدنية الإنسانية لا تقع فقط في ساحات القتال والقتل والذبح؛ في سورية والعراق واليمن وليبيا، بل في أغلب الدول والمجتمعات العربية. فالصور التي تنتقل من هناك، والقيم الكارثية التي تزرع في تلك البقاع، تنتقل مثل الفيروس إلى باقي المناطق والثقافات العربية، كما هي الحال لنموذج وثقافة "داعش".
في السابق، تحدث الجيل الإصلاحي الأول، مثل جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ومالك بن نبي، عن أمراضنا الروحية والثقافية، واعتبروها عاملا أساسياً من عوامل التخلف والتراجع والضعف لدى المجتمعات العربية والمسلمة؛ تلك الأمراض التي ارتبطت بالجمود الديني وغياب الإصلاح الديني والاستبداد السياسي وثقافة النفاق الاجتماعي واستباحة الغش والرياء. وهي الآفات التي لم نتخلّص منها، بل أضفنا إليها اليوم آفات جديدة وأكثر خطورة، مرتبطة بالحروب الداخلية الراهنة.
ربما الفرق الكبير الهائل بين مدرسة الإمام محمد عبده الإصلاحية ثم المدارس الإحيائية التي ولدت بعد ذلك مع الجماعات الإسلامية، أنّ مدرسة محمد عبده كانت ترى أنّ الاستبداد السياسي والجمود الديني هما أصل البلاء، وأنّ الجرثومة الحقيقية هي التخلف والكلالة، لذلك اعتبرت مهمتها الرئيسة في الإصلاح الثقافي-الديني-المجتمعي، وفي التربية والتعليم. بينما المدارس التي تلتها اعتبرت أنّ المشكلة هي في الاستعمار والعلمانية والتغريب، فجعلت اهتمامها إحياء الإسلام، من دون الاهتمام الموازي بتجديده وتطويره، وتصحيح المفاهيم الخاطئة المتوارثة، وجعل الموروث الفقهي والثقافي متوائماً مع روح العصر الذي نعيش فيه.
من الطريف أنّ الشكوى من الجمود الديني واختلال المفاهيم الدينية بدأت مبكراً، مع أبي حامد الغزالي، الذي تحدث في كتابه الجميل "إحياء علوم الدين" عن عدم وجود أطباء مؤهلين في مناطق عديدة، بينما توجد أعداد كبيرة من طلبة الشريعة مع عدم الحاجة إليهم؛ وكذلك مع إعلان ابن خلدون الحرب على فقه الحواشي والمتون والصفحات الصفراء الذي عطّل العقل الفقهي الإسلامي!
على أيّ حال، إذا كان جوهر المعركة التي دشّنها مالك بن نبي سابقاً هي إعادة تأهيل "الإنسان" في العالم العربي، فإنها اليوم أكثر أهمية وضرورة. وإذا كانت مهمة الإصلاح وفقاً لمحمد عبده، تبدأ بالتربية والتعليم، فهي اليوم بالفعل معركة المصير والمستقبل للمجتمعات العربية والمسلمة.
من الضروري أن نردّ الاعتبار لمعركة القيم في التربية والتعليم والإعلام والثقافة، واستنقاذ الأجيال الجديدة من براثن قيم وثقافة قاتلة مدمّرة، أكثر فتكاً من أسلحة الدمار الشامل كافّة!