الرئيسية أحداث محلية
أحداث اليوم -
يجادل سكوت هيبارد في كتاب "السياسة الدينية والدول العلمانية: مصر والهند والولايات المتحدة الأميركية، في أن الدور السياسي للدين والجماعات الدينية إنما هو نتاج سياسات واعية، أدارتها نخب سياسية "علمانية"؛ بهدف توظيف الدين والجماعات الدينية الأصولية لأجل مكاسب سياسية، أو بناء هويات وطنية وقومية وطائفية تنشئ تماسكاً اجتماعياً وراء نخب سياسية علمانية.
ويعرض ثلاثة أمثلة لهذا التوظيف السياسي النخبوي من الولايات المتحدة ومصر والهند.
لو كان صحيحاً أن الفقر والتهميش الاقتصادي والاجتماعي هما سبب صعود الجماعات الأصولية، فلماذا يصوّت الفقراء في الولايات المتحدة لمرشحي الحزب الجمهوري المحافظين الذين يديرون سياسات ومصالح رأسمالية تضرّ بالفقراء، ولا ينتخبون الديمقراطيين المنحازين للرعاية الاجتماعية والصحية للفقراء، ولسياسات ضريبية تصاعدية تنصف الفقراء والطبقات الوسطى؟ ولماذا ينتخب فقراء الهندوس والمنبوذون طبقياً حزب بهارتيا جاناتا القومي الهندوسي الطبقي، ولا ينتخبون حزب المؤتمر المؤمن بالمساواة؟ ولماذا صعدت الجماعات الدينية ردّاً على الفقر، ولم تصعد بدلاً منها الجماعات اليسارية والاشتراكية المنحازة تاريخياً للفقراء والمعادية للرأسمالية؟
الخرافة الثانية في تفسير الأصولية الدينية والجدل معها، هي تقديمها نقيضاً للحداثة. فقد أظهرت الجماعات الدينية الأصولية، رغم تطرفها وتعصبها، استيعاباً متقدماً للحداثة التكنولوجية والأفكار والنظريات السياسية والاجتماعية الحديثة، ورؤية فكرية وتنظيرية وفقهية مستمدة من التراث الديني التقليدي المعتمد لدى الفئة الغالبة من أتباع الدين والمؤسسات الدينية الرسمية نفسها، وأعادت إنتاج وتطوير الأفكار والاتجاهات اليمينية والقومية والاتجاهات السياسية الداعمة في هيئة فكر ديني أكثر تماسكاً ومنطقية من القوميات والوطنيات العلمانية. وساعدها في ذلك -ويا للسخرية- نخب سياسية علمانية، ومؤسسات بحثية وأكاديمية، وشركات للعلاقات العامة والإعلام. ثم استطاع الأصوليون بأنفسهم أن ينشئوا مؤسسات إعلامية وبحثية، أو مكن لهم في مؤسسات كبرى، وأن يحصلوا على خبرات إعلامية وتنظيمية وتقنية متقدمة. كما أظهروا قدرات تنظيمية هائلة في حشد المؤيدين والأتباع، وتنظيم العمل السياسي والجماهيري. ولم يكن في واقع الحال ساذجاً سوى خصومهم، الذين أثبتوا أنه يغلب عليهم الوهم والكسل، وأن وجود معظمهم في المؤسسات الإعلامية والأكاديمية لم يعد يفيد في شيء سوى الشتم المثير للسخرية، وكانت غالبيتهم غير قادرة على فعل شيء سوى استهلاك الموارد.
الخرافة الثالثة التي جرى ترويجها، هي تقديم الصراع مع الأصوليات الدينية بأنه صراع قيم وأفكار، أو أنه صراع بين الحداثة والرجعية، أو بين التعصب والتسامح. لكن ذلك لا يفسّر التشابه إلى درجة التطابق في الأفكار والسلوك بين الأصوليات الدينية المتصارعة؛ إذ يكاد يكون المتدينون اليهود "حريديم" والأصوليون المسلمون والتجديديون الأنغليكان والبروتستانت جماعة واحدة. ولا يفسّر الصراع الدامي بين الأصوليات المتطابقة داخل الدين الواحد، على نحو ما يجري اليوم في الشرق العربي، كما لا يفسر أن المؤسسات الدينية الرسمية لا تختلف أيضاً في فتاواها ورؤيتها عن الجماعات المتطرفة التي تحاربها وترفضها.
ما يجري ليس صراعاً حول الدين، وإنما صراع على الدين؛ وكأن من يملك الدين يملك الشرعية السياسية أيضاً، والأحقية في الحكم والتأثير. وكانت النخب السياسية "العلمانية" هي من أطلق هذا السلاح ضد الخصوم وليس الجماعات الأصولية. ولا مخرج من الأزمة سوى تحرير الدين والسياسة من بعضهما بعضاً.