الرئيسية مقالات واراء
في مؤتمر دولي، على درجة من الأهمية والعمق، بعنوان "سر الجاذبية: الدعاية والتجنيد لدى داعش" (نظمته مؤسسة "فرديريش إيبرت" الألمانية أمس)، تناقش خبراء وباحثون، محليون وعرب وغربيون، بشأن الأسباب التي تدفع بالشباب إلى الانضمام إلى هذا التنظيم، أو تبني ذلك الفكر.
الجلسات غطت محاور المؤتمر؛ من تناول الحالتين العراقية والسورية أولاً، ثم الأردن والسعودية ولبنان، وصولاً إلى تونس، ثم أوروبا، وأخيراً مقارنة تلك الحالات المختلفة للوصول إلى نتائج حول أسباب الجاذبية لدى التنظيم.
وبالرغم من تنوع الحالات واختلاف الأسباب التي سمعنا بها أمس، ووصول المتحدثين إلى نتيجة مهمة، هي أنّنا نتحدث عن شروط مركبة ومعقدة، وليست بسيطة أو مختزلة، إلاّ أنّ هناك عبارة مفتاحية يمكن أن تتوافر في أغلب الحالات: أزمة الدولة الوطنية التي فشلت في تأمين الحاجات الرمزية والمعنوية قبل المادية؛ أي التهميش والإقصاء، والطائفية والاستبداد، والإحباط والرغبة في الانتقام، والبحث عن الهوية والمعنى والحلم أو الوهم، والثورات المضادة للربيع العربي، وخيبة الأمل من التغيير السلمي.
من الأوراق المميزة في المؤتمر، ورقة للباحث التونسي سامي براهم، تناول فيها "الدواعش التونسيين"، عبر عرض نتائج لدراسة طويلة شملت مئات الحالات. وتكمن أهمية الورقة في أنّها تجيب عن السؤال المهم لدى كثير من المراقبين: لماذا تونس تعد من الدول الأكثر تصديراً لهؤلاء الاشخاص، بالرغم من أنّها نجحت في اجتياز مدخل التحول الديمقراطي، بعيداً عن شبح التجربة المصرية، وتوافرت على دور قوي للإسلام السياسي السلمي المعتدل؟
يجيب براهم عن هذا السؤال بفشل مشروع العلمنة التحديثية القسرية المفروضة من الأعلى على المجتمع خلال العقود السابقة؛ فشلها في المزاوجة بين الحداثة والقيم الإسلامية للمجتمع، وفشلها في بناء تنمية عادلة، على النقيض مما كان يتصور، فبقيت مساحة واسعة تعاني التهميش والإقصاء وغياب العدالة والتنمية.
يضيف براهم: "خريطة الإرهاب هي نفسها خريطة التهميش الاجتماعي؛ هم أنفسهم ينتمون إلى المناطق المحرومة المهمشة، التي لم تطأها قدما الدولة. صورة تونس الحديثة هي صورة وهمية، وهناك مناطق لا تدخلها التنمية ولا الماء الصالح للشرب. وفي هذه المناطق تغيب الدولة، ويجد المواطنون أنفسهم مع خطاب الاستقطاب، الذي يوفر حاجات نفسية واجتماعية واقتصادية".
هذه الشقوق التي تركتها الدولة، تحرك فيها هذا النموذج بسرعة ليملأ الفراغ. فداعش ليس تنظيماً عسكرياً في تونس، وإنما هو ظاهرة اجتماعية، ونفسية، وسياسية، واقتصادية، وحتى إعلامية، والأهم شبابية؛ يجد فيها كثير من الشباب الحلم-الوهم الذي يبحثون عنه. فالمهاجرون التونسيون إلى "داعش" يبحثون عن "دولة جديدة، تنتدب شعباً جديداً، من دون المرور عبر طابور طويل من المناظرات والمصعد الاجتماعي الطويل"؛ هي هجرة جماعية من مشاعر التهميش والفقر واحتقار الذات، إلى "مشاعر الفخر والاعتزاز بالذات، والانتقال من الهامش إلى قادة في المركز الجديد"!
باختصار، الحلم الداعشي هو الحلم الغلط الذي يسير نحوه المهمشون، أو الذين يبحثون عن بديل للواقع القائم. بالرغم من ذلك، فإنّ الوجه الآخر لقصة التونسيين، أنّه برغم العدد الكبير المتأثر بهذا الفكر، إلاّ أنّهم ما يزالون خارج محطة القبول الاجتماعي، ولذلك يهاجرون إلى الخارج، ولا يستوطنون في الداخل، لأنّ شروط الإنتاج قد تكون متوافرة لكن الحاضنة الاجتماعية التي تتقبلهم وتمنحهم شبكات الأمان الاجتماعي والسياسي غير موجودة.
في كل حالة من الحالات، نجد أنفسنا أمام أسباب وشروط واقعية موضوعية، ولسنا أمام ظاهرة ولدت من رحم الفراغ أو تم استيرادها من الخارج.