الرئيسية أحداث فنية
أحداث اليوم -
فيما كانت وسائل الإعلام منشغلة بحادثة الهبوط الاضطراري لطائرة إماراتية في سري لانكا، ونجاة نحو 500 راكب من الموت، كان التهريج ما زال مستمراً، ضمن برنامج “هبوط اضطراري” الذي يعرض عبر شاشتي “أم تي في” و”الحياة”.
فكرة البرنامج سطحية إلى درجة لا تحتمل شرحاً طويلاً. دعوة وهمية يتلقاها فنان، ومعه الممثل المصري هاني رمزي. رحلة من بيروت إلى قبرص، يتم خلالها الحديث عن عطل استجدّ في الطائرة، لتبدأ رحلة “تعذيب” الضيف قبل أن يعود إلى الأرض، و”يكتشف” الحقيقة. لن أتوقف في هذه الأسطر عند حقيقة المقالب، ولن أدخل في تفاصيل صناعة الحلقة، وكيفية اقتناع الضيف بأن يستقلّ هذه الطائرة بالذات، فيما رحلات عدة تنظم يومياً ما بين بيروت وقبرص. لن أتوقف أيضاً عند ما تناقلته وسائل التواصل الاجتماعي عن كاميرات ظاهرة وعناصر تشي بـ”فبركة” المقالب. المسألة أهم بكثير، إذ تتعلق بحرم مطار بيروت المستباح للتهريج! نعم، إنه مطار رفيق الحريري الدولي الذي عاش صولات وجولات في ملفه الأمني، قبل أن يقرر برنامج ومعه ممثل “ثقيل الظل” ومجموعة كومبارس اللهو بسمعته، و”توريط” شركات كبرى – ولو عبر زجّ اسمها في خلفية المشهد – في هذه المهزلة.
كيف أمكن الجهات المختصّة أن تمنح إذناً لاقتحام حرم المطار؟ للاستعانة بطائرة تابعة لشركة لبنانية؟ لتجنيد طاقم كامل في الجو وعلى الأرض؟ للاستعانة بسيارات الإسعاف؟ والأنكى، لاستخدام درج كُتب عليه اسم شركة وطنية عريقة (MEA) احتفلت قبل أيام بعيدها السبعين؟ وكل ذلك من أجل تصوير مَشاهد بلغت القاع، على كل المستويات الفنية والإنسانية وحتى الوطنية.
ماذا عن سلامة الطيران المدني؟ ماذا عن أمن الناس؟ ماذا عن سمعة المطار وشركات الطيران التي تموت وتحيا عادة كي تولد الثقة بينها وبين زبائنها / الركّاب؟ لا يهم! ماذا عن ملف الطائرات التي تسقط؟ أي كابتن ذلك الذي يسمح لنفسه أن يتلاعب بأعصاب الناس ويقوم بحركات بهلوانية، وينشر الذعر هنا وهناك؟ هذا الموضوع لا يعيد فتح النقاش حول مأساة طائرة “لوفتهانزا” وقضية الوضع النفسي لقائد الطائرة، المؤتمن على حياة الناس، فحسب، بل يتعداه إلى الناحية الأخلاقية. وأين نقابة الطيّارين اللبنانيين مما يحدث؟
ليس غريباً أن تصل بنا الحال إلى هذا الدرك. في بلد العجائب هذا، كلّ شيء ممكن. من الممكن أن تتلاعب بأعصاب الناس – حدود الاستنزاف. من الممكن أن تلهو بمسألة سلامة الطيران المدني. من الممكن أن تهرّج وأنت تمسّ ضاحكاً بسمعة مطار وطائرات. لماذا هذه الاستباحة للأجواء اللبنانية، المستباحة أصلاً لكل من هبّ ودب؟!
نذكر هنا، على سبيل المثال لا الحصر، أن المادة 45 من القانون رقم 663، المتعلق بسلامة الطيران، تقول حرفياً: “لا يجوز تشغيل مركبة هوائية باهمال أو باستهتار على نحو يعرّض حياة الأفراد للخطر أو يعرّض الأشخاص المعنويين أو الممتلكات للضرر”. والأمثلة تكثر عن أحكام التشغيل والطيران المنخفض والعروض البهلوانية وحماية البيئة وتعريض حياة الأبرياء للخطر…
يا أخي. انسوا المسؤولية الاجتماعية. ماذا عن أولئك الذين يعيشون فوبيا الطيران؟ ماذا عن أهل ضحايا الطائرات المنكوبة من إثيوبيا وكوتونو إلى ماليزيا؟ وقبل كل ذلك، ما المضحك في رؤية أشخاص يتعذبون؟ من قال لكم إننا سنقهقه حين نرى نيكول سابا فاقدة الوعي على الأرض أو أحمد زاهر يرتجف؟ تريدون كسر الصورة التي يضع النجوم أنفسهم في إطارها؟ حسناً، ولكن لماذا هذه الطريقة؟ دماؤنا الرخيصة التي تسيل يومياً، ألا تكفيكم؟ من قال لكم إننا نحتاج إلى جرعات إضافية من العنف؟
ومع كثيرين، أقف مدهوشاً أمام “جنيريك” البرنامج الذي يشكر، من؟ قيادة الجيش! بالله عليكم، احذفوا اسم الجيش البناني من قائمتكم. لم يبقَ لنا سوى هذه المؤسسة الوطنية. احذفوها. لا تورّطوها في لعبة سمجة تمسّ السلامة العامة.
أخيراً، إلى المدير العام للطيران المدني دانيال الهيبي الذي أكد مراراً التزام لبنان بالمعايير الدولية لسلامة الطيران… إلى رئيس مجلس إدارة “الميدل إيست” محمد الحوت الذي احتفينا معه قبل أسابيع بإنجازات MEA، والتي يظهر اسمها على درج تلك الطائرة… إلى وزارة الداخلية والبلديات، إلى وزارة الدفاع، إلى وزارة الأشغال العامة والنقل، إلى مديرية التوجيه، إلى جهاز أمن المطار، والأمن العام، ومديرية الجمارك، إلى كل الجهات المختصّة التي يشكرها البرنامج… كيف سمحتم بكل ذلك؟
غرقنا كثيراً في القاع. لا تلوثوا الجو أكثر. رأفة، بكل ما ذكر أعلاه، تدخّلوا للحد من اللهو بأرواح الناس. الموت بات رخيصاً جداً. لا تسمحوا بإدخاله في بازار المحطات ولعبة الأرقام القذرة. بلغة التلفزيون، حتى صرخة مماثلة تعدّ انتصاراً، ولكن ماذا عن معايير السلامة العامة؟ يجب إعادة النظر في صناعة برامج من طراز “هبوط اضطراري” أو حتى الكارثة الأخرى التي تسمّى “رامز واكل الجو” (مع اختلاف المعايير الانتاجية بين البرنامج الأول والثاني الذي يعرض عبر “أم بي سي”، فضلاً عن اختلاف نوع الطائرة ومكان التصوير).
بئس هذه الكوميديا.
بئس هذا الإعلام. بئس هذه الأفكار “الإبداعية”. بئس هذا الزمن!