الرئيسية مقالات واراء
(1) لم يدرس في معهد، ولم يكمل مراحل دراسته الابتدائية او الاعدادية على الأكثر، الظروف أجبرته على ترك مقاعد الدراسة والانخراط في العمل، فأهدر طفولته وشبابه في الكراجات وتحت السيارات وبين العجلات والجكات والمفاتيح. يقتنص لقمته من قطعة حديد تالفة هنا، ومن موتور يحتاج الى تنزيل أو تبديل هناك، وربما من عجلات تحتاج الى الترقيع، والى ما يشابه ذلك من الأعمال القاسية.... قاسية فعلا، لكنها تعطيه القدرة على العيش هو وأسرته الممتدة، حيث يجهد في تعليم اطفاله حتى لا ينضموا الى مدرسة الشقاء الأبدي.. مثله.
تصليح السيارات مهنة خطرة، عليه وعلى أصحابها وسائقيها، وعلى كل من حولها من بشر ودواب معدنية وحيوانية.. يتعامل في عمله مع أوزان ثقيلة يقبع تحتها قد تحوله الى جثة معجونة بالدم عند أي خطأ. صاحب السيارة يثق به ويقود جحشته المعدنية بكل أطمئنان، لذلك فإن أي خطأ يقترفه قد يؤدي الى كارثة تصيب ركاب السيارة ومن يجاورهم.
يخشى الدخلاء على المهنة الذين يرتدون الأفرهولات الوسخة ويفتتحون الكراجات دون معرفة ودراية كاملة في العمل.... هؤلاء يسيئون الى المهنة والى سمعته وشرفه المهني والى خبرته التي اكتسبها عبر عقود. يداه سر قوته وعرقها المنقوع بالزيت والشحوم والجهد يعاند السنين ويتحدى شيخوخة الحديد.... ويصنع المعجزات.
(2)
هيكل معدني..طرقات متعرجة...شرطي سير...وسابلة تشير اليه،هذه طقوسه كل يوم، لكأنها معزوفة فرضت عليه، آلاتها العازفة: الجير والبريك والغمازات والبنزين طبعا والمساحات وغيرها من اعضاء كونشرتو القيادة.
لوحة المعلومات المسنودة على التابلو تطل منها صورة رجل انيق مبتسم حليق نظيف سعيد مفعم بالحيوية، تنظر اليه بطرف عينك فترى رجلا مغموسا بالشقاء مترهلا متهدلا، حزينا، لكأنه نسخة نيجاتيف سيئة التصنيع عن صاحب الصورة الكاشخ في لوحة المعلومات على التابلو.
رغيف الخبز يركض أمامه بأسرع من عجلات سيارته، وهو يلهث خلفه بلا كلل ولا ملل.. فقد ترك افواها تبحث عن الطعام، لم يداعبها منذ زمن، فهو يخرج باكرا قبل ان يصحو الاطفال، ويعود من العمل منهكا، بعد ان يكونوا قد ناموا.
ليس من اجلنا، بل من اجل اطفاله وعائلته يترهب هذا الرجل في صومعته المعدنية ويخدم الجميع، بطريقة تقول لنا بأنه ليس المعلم وحده الشمعة التي تضيء الطريق أمام الاخرين.. صحيح ان شمعة المعلم تضيء، لكنها تنير طريقا واحد أما السائق فإنه ينير جميع الطرقات أمامنا ويعود الى البيت منطفئا من التعب، لكنه في الصباح يصحو مثل طائر الفينيق الذي يخرج من رماد حرائقه اكثر قوة وعزيمة.