الرئيسية مقالات واراء
سلوك الحركات الإرهابية يتجاوز زاوية الدم والقتل. وعندما نقرأ هذه الحالة الطارئة والساعية للانتشار والتوسّع، يجدر بنا أن نمعن النظر، وأن نبحث عن السياقات والنتائج. وبالمقابل، فإن مجابهة هذه التيارات الظلاميّة، لا تكون فقط من زاوية الأمن أو من وجهة النظر الثقافيّة، على أهميّة ذلك. القصّة أعمق وأشمل. وعند مواجهة أيّ تحدٍ لا بد من قراءة صادقة، شجاعة، تأخذ بعين الاعتبار الحيثيّات والروافع، وليس فقط النتائج أو المظاهر. المسألة اليوم، تطوّرت أكثر، وأنتجت صراعاتٍ موازية، يتغذى عليها هذا الإرهاب وينشر من خلالها مفاهيمه وأفكاره. لقد أفرزت الحركات المتطرفة، منذ تمكّنها الميداني في سوريا والعراق، وأكثر من بلد في هذه المنطقة المنكوبة؛ نفساً طائفياً، وآخر مناطقياً، ونتج عن ذلك تنام وبروز للعصبيات القبلية، وتكرّس سلوك إقصاء الآخر، سواءً بتكفيره أم بتخوينه أو بتهميش دوره والتنكّر لحقوقه وشراكته التاريخيّة..
أين كنّا، وأين أمسينا؟ سؤال كبير، تبدو الإجابة عليه، مؤسفة ومريرة. حتى إذا قارنّا اللحظة الراهنة، بزمن سيادة التيارات القوميّة، وأنظمتها، بكل ما في تلك التجربة من أخطاء وخطايا وعثرات؛ نكتشف أن تلك المرحلة استطاعت أن تدمج الآشوري والكلداني والمسيحي والدرزي. وعندما كان الشعور القومي متفّوقاً، وبكل فطريّته وعفويته وروحيّته الصادقة كانت مشاعر الناس عروبيّة، ترفض القسمة أو التفرقة. وكانت طموحات الوحدة وآمالها لا تميّز بين مجتمع عربي وآخر، أو مذهب أو ملّة. وكانت حالة تتجاوز الأبعاد التنظيميّة إلى ما يمثّل روحيّة عامة، تواقة للتحرر والوحدة والتنمية.
هل وصلنا إلى مرحلة نفاضل فيها بين السيء والأسوأ، وهل نترحم على ديكتاتوريّات حكمت، فوحّدت الناس، ولم تميّز حتى في استبدادها بين فريق وآخر، ومذهب وملة، مع تنظيمات ظلامية، تسود اليوم وتنتشر، فتبث الكراهية والتفرقة والتفتيت، وعلى أسس مذهبيّة وعرقيّة ومناطقيّة. أم أن هذا هو نتيجة ذاك، بكل مأساويته وشروره! وهل يجد شبابُنا الحائر اليوم، فرقاً بين «المستبد المستنير»، وبين الديكتاتويات الناشئة، التي تقتل وتذبح وتهجّر وتروّع، باسم الدين، الذي قام على أساسات الرحمة ومكارم الأخلاق، ديننا الذي وحّد العرب، ومدّ جسور التواصل مع الثقافات الأخرى!
لقد عانت شعوب المنطقة العربيّة، عقوداً طويلة من أنظمة ديكتاتورية، دموية، عرفية صارمة. وهذه الأنظمة التي استبدّت وقمعت الحريات السياسية؛ أطلقت بالمقابل الحريّات الثقافيّة والفكريّة، وأنتجت فنوناً ورعت التنوّع والإبداع، وازدهرت في عهودها الحركات الثقافيّة والمدنيّة، وكان لدينا مسرح وسينما ومعاهد وموسيقى وفنون منوّعة. وفي عهود تلك الأنظمة، لم يشعر أتباع الديانات والمذاهب بالإقصاء ولم يُشرّدوا أو يروّعوا، لاعتبارات دينيّة أو عرقيّة، وإن كان كثيرون من أبنائهم دفعوا أثماناً باهظة لمواقفهم وانتماءاتهم السياسيّة أو التنظيميّة. ولم يكن القتل على الهويّة.
وبكل النضالات والتضحيات الجسيمة التي قدّمتها النخب السياسية والحزبية والتقدميّة، لواقع أفضل من الشراكة والحريّات؛ كان الإرهاب الأعمى، الظلامي، يجني الثمار، ويتمدّد، ويملأ الساحات التي تراجعت فيها وتخلت عنها أنظمة القمع العلمانيّة.
وبدلا من أن نستبدل تلك الأنظمة القمعيّة، بأخرى تعددية ديموقراطية مدنيّة منفتحة تعلي من قيم الكرامة الإنسانيّة؛ فتحنا عيوننا بين عشيّة وضحاها على ميليشيات الظلام والعنف والترويع، تحكم المنطقة، وتعيث فيها فساداً وتفتيتاً، يتفنن مجرموها ومرضاها في القتل وترويع وتشريد أتباع الديانات الأخرى، يحرقون المدن التي تسكنها قوميات مختلفة، ويستهدفون الإرث الإنساني، ويحولون الآثار التاريخية من ملك للإنسانية كلها، وشواهد على عظمة تاريخنا وحضارتنا، إلى ركام أو تجارة مربحة، تموّل إرهابهم وانتشارهم. .
هربنا من إرهاب واحد سياسي إلى إرهاب شامل، ثقافي مذهبي عرقي ظلامي، أحالنا إلى أشلاء وحواضرنا إلى مناطق منكوبة؛ دمّر أريافنا وانتهك بوادينا، وفتك بوحدتنا، وأصبح معه الآمنون المكافحون لغدٍ أفضل، سبايا ولاجئين ومروّعين، ينتظرون ما تجود به المساعدات الإنسانية، بعد أن كانوا يزودون العالم بقمحه وخضاره ومحاصيله.
باختصار، فإن أكبر ضحايا هذا الإرهاب الأعمى هم أجيالنا القادمة ووحدتنا ونسيجنا وقوميّتنا التي طالما تغنينا بها، وببلاد العُرب وطناً لكل العرب، «من الشام لبغدان، ومن نجدٍ إلى يمنٍ، إلى مصرَ فتطوان». وبالمناسبة، فإن مبدع هذا النشيد الذي تغنّت به أجيال من أبناء أمتنا، المجاهد العربي السوري فخري البارودي، حلّ لاجئاً في الأردن، واستقرّ في عمان معزّزاً مكرّماً، بضيافة الملك المؤسس والأردنيين جميعاً. جاءنا لاجئاً من نير الاستعمار الفرنسي، لا من وحشيّة أبناء جلدتنا واستهدافهم لكل ما هو راقٍ وجميل.
وما دام الحديث قد انتقل بي إلى الأردن، في ذلك الزمن البهي، عندما كانت مجالسنا ومضافاتنا ومنتدياتنا جامعات حقيقيّة، تستنهض الهمم وتغذّي الروح المعنوية الإيجابيّة، تحتضن رواد العرب وأدباءهم وأحرارهم ومفكريهم، انتقلنا إلى لحظة، تعاني فيها جامعاتنا ومعاهدنا ومنابرنا، من واقعٍ جديد، يغيب فيه دورها التنويري، وتشهد صدامات وصراعات، أبعد ما تكون عن الهمّ العام، وعن تاريخها القريب، حيث كانت موئلاً للحوار والتنوير وتنوّع الفكر والخلفيّات. هذه الجامعات التي كانت تصدر فكراً وثقافة ومدنيّة، نسمع اليوم عن حملة، يقودها طلاب، مغررٌ بهم، تقوم على تهديد كل بنت تجالس زميلها الطالب الجامعي وتصويرهما ونشر الصور! فهل هذا ما أفدناه من ثورة التكنولوجيا الحديثة وتقنياتها، هل نقبل بأن يتحول أبناؤنا من طلاب علم ومعرفة، إلى متعصبين متفرّغين لملاحقة بعضهم البعض، وتشويه صورة صروحنا الأكاديميّة!
أليست الصدامات التي تحدث على أسس مناطقية وعشائرية وجهوية، سببها غياب دور الجامعات وتشويه الوعي، والافتقار للإحساس الراقي، بعد أن غابت الثقافة القومية المدنيّة، التي كانت تميّز الحركات الطلابيّة في بلدنا!
حتى في الإعلام، لم تعد قضايانا العادلة والتاريخيّة حاضرة في نشراتنا وتغطياتنا الإعلاميّة، وتصدرت الشؤون المحلية لكل بلد عربي، وأخبار الإرهاب والصراعات الدمويّة. حتى فلسطين القضية المركزية وشغل العرب الشاغل، لم تعد محل اهتمام ومتابعة، مثلما كانت قبل سنوات قليلة؛ ولم يعد أحد يعرف بما يطرأ ويستجد على الساحة. وكأن القضية جمدت تماماً. ولو سألت أحداً من أبناء الجيل الجديد عن أحدث تطوراتها فستجد أنه مغيّب بفعل تأثير وسائل الإعلام، لكنه قد يجيبك بالتفصيل عن أحدث تطورات الصدام بين «داعش» و»النصرة»، تحت ذات التأثير.
الأردن، الذي نحمد الله أنه دائماً بكل خير، وأنه بلد العروبة والرسالة الهاشمية النهضوية، وخطابه العروبي، الذي يدلُّ عليه اسم جيشه، ورسمُ علمه، هذا البلد الذي تأسس على فكر الثائر الشريف الحسين بن علي، وأنجاله وأحفاده المستنيرين، بحاجة اليوم، للتحصين ولدفع المخاطر عنه، ليس بالإصلاح السياسي وحده، ولا بالعملية التنموية على أهميتها، ولكن، أيضاً، بالإصلاح البنيوي الاجتماعي، وباستعادة وتعزيز الروحيّة العروبيّة القوميّة، التي نشأ على خطابها هذا البلد العزيز الأبيّ.
ولنبدأ من إعادة تأكيد هويتنا، عبر التركيز على مكونات الأردن ومصادر قوته، ابتداءً من جيشنا العربي المصطفوي، وتاريخه وتضحياته وشهدائه البررة. هو الجيش الذي قاتل خارج حدود أرضه، دفاعاً عن العرب والعروبة، وسجّل الانتصارات والدروس. ولا يملك جيش آخر سجلاً، مثل سجل جيشنا العربي في القتال على أرض العروبة. ألم يقاتل جنودنا في عُمان، اليمن، الكويت، الجولان، فلسطين والعراق؟
نحتاج أن نعيد إلى وعي أجيال الأردنيين، وأن نغرس فيهم، القيم التي كرّسها الآباء والأجداد؛ وأن يعرفوا أن هذا البلد منذ مطلع تأسيس دولته الحديثة، كان قومياً بالفطرة وبالسلوك السياسي؛ فهو الذي فتح أبوابه لكل العرب، ومنحهم دفئه، وجعل الكل يساهموا في بناء مداميك الدولة القوية الفاعلة، هو الذي احتضن كل عربي ضاقت به السبل ومد له اليد الحانية، وهو الذي قاتل لأجل العرب كلهم ....
القوميّة، ليست تنظيماً سياسياً أو نادياً ثقافيّاً. هي فطرة العربي. وهي الفكرة السامية التي تجمع ولا تفرق. وأظن أن من يقتلون على الهوية ويجزون الرقاب باسم الدين، وينتجون بتشويه الرسالة السامية فاشية جديدة، يدركون أن الثقافة القوميّة ترفض كل هذه الأشكال من التطرف وترفض واختطاف الدين وإقصاء الآخر.
عندما حلّ سلطان باشا الأطرش الزعيم السوري الدرزي، في أرض الأردن، بعد أن فجّر واحدة من أعظم الثورات العربيّة الحديثة في وجه الاحتلال الفرنسي؛ كان له صدر كل بيت أردني. وعندما جاءنا قادة حزب الاستقلال السوري، من أمثال رشيد طليع وأحمد مريود، كانت لهم إسهاماتهم في بناء مؤسسات الدولة الأردنيّة الحديثة. وفيما بعد، كان الأردنيون قادة ومنظرين في الفكر القومي الاجتماعي الذي وضع أدبياته الراحل أنطوان سعادة، مثلما كانوا تواقين لفكر ونضالات ميشيل عفلق، حتى وإن لم يكونوا مسجّلين في تنظيمات قوميّة. إلا أن ثقافتهم كانت عروبيّة صادقة، واثقة من قدرة هذه الأمة على الاستقلال والوحدة والنهضة. وهي الأفكار التي بشّرت بها مجتمعة الثورة العربيّة الكبرى.
وعندما نتحدث عن ميشيل عفلق وسلطان باشا الأطرش وأنطوان سعادة، لا يخطر في بالنا إلا أنهم كانوا عرباً ثائرين أحراراً، قبل أن يكونوا مسيحيين أو من طوائف أخرى، قدّمت زهرة شبابها وجلَّ تضحياتها دفاعاً عن العروبة والكرامة والحياة الأفضل، لمستقبل العرب كلهم دون تفريق أو تمييز.
نحن بحاجة في هذه المرحلة، وأكثر من أيّ وقت مضى، لإحياء هذه الروح، في أجيالنا الجديدة؛ فالعرب ليسوا بقية «داعش» و»النصرة» وتلك الأسماء لمليشيات ما أنزل الله بها من سلطان؛ بل هم أبناء فكرة سامية هي العروبة، وهي فطرة العربي، وهي حصنه وملاذه الأخير، وهي صنو رسالته الإسلامية المستنيرة، وهي رافعتها وحامية صورتها المشرقة.