الرئيسية مقالات واراء
المقال القصير الذي نشره وزير الخارجية الإيراني محمد ظريف، أمس في أربع صحف عربية، حمل رسالةً تاريخية مهمة من إيران إلى الأنظمة العربية، ويتضمن دعوة إلى تعاون إقليمي متعدد المستويات، وتسوية الصراعات الكارثية العالقة في المنطقة!
العنوان الذي اختاره ظريف لمقاله هو "الجار ثم الدار"؛ مشيراً إلى الجوار الإقليمي، والقواسم المشتركة التي تجمع أبناء المنطقة من وعاء إسلامي تعددي شامل وموروث مشترك، والأهم من هذا وذاك التفكير في المستقبل.
كأنني أرى ملامح الانزعاج بدت على وجوه بعض القرّاء، وفي ألسنتهم علامات تعجب واستفهام، وهم يقرأون هذا التعقيب على مقال ظريف، فيطرحون التساؤلات المتتالية: هل هذا ممكن فعلاً بعد الدور الإيراني الكارثي في العراق وسورية ولبنان واليمن؛ بعد الدماء التي سالت جراء التدخل الإيراني في هذه المناطق؟ وهل مكافحة الإرهاب السُنّي هي المدخل أو السبب المعلن؛ فأين الإرهاب الطائفي المقابل؟ وهل تتوقّع أن تتخلّى إيران فعلاً عن حليفها التاريخي بشار الأسد أو الحوثيين؟ وهل موازين القوى اليوم تخدم إيران أم تخدمنا نحن؟...
بالطبع، يمكن إضافة كمّ هائل من تلك التساؤلات التي تستبطن شكوكاً مشروعة ومنطقية في إمكانية نجاح الصفقة التاريخية في المنطقة، أو بعبارة أخرى التفكير في سيناريو آخر للعلاقة مع إيران، يقوم على القبول بها بوصفها قوة إقليمية، والاعتراف بالتعدد الطائفي والعرقي وإدارة التنوع الثقافي والحضاري، والتسويات السياسية للملفات العالقة! لكن مع أخذ هذه الشكوك بعين الاعتبار، فإنّ السؤال المطروح علينا جميعاً: ما البديل؟
في هذه الحرب، كما قال ظريف، لن ينتصر أحد؛ لا إيران ولا نحن العرب. وهذا صحيح. ويمكن أن نضيف أنّ الخسارة فيها تتجاوز الجانب العسكري، إلى المجال الحضاري والأخلاقي والثقافي والتاريخي، والمجتمعي والنفسي، فلا "يوجد رجال جيدون في هذه الحرب"!
لماذا، إذن، لا نأخذ رسالة ظريف بعين الاعتبار، ونمنحها أهمية كبرى، حتى لو على صعيد النخب السياسية والمثقفة العربية (إن كانت الحكومات غير قادرة على هذه الخطوة الآن)، فنصوغ رسالة موازية جوابية من الجانب العربي إلى الإيرانيين، تحمل في طيّاتها المخاوف والشكوك السابقة، والدعوة إلى سلوك إيراني إيجابي، وإلى استبدال محاولات توظيف الشيعة العرب في الصراع الإقليمي من قبل إيران، كما إلى محاولة بناء نظام إقليمي حضاري يحترم التعددية والتنوع ويحرّم الطائفية ويجرّمها، ويحمل حق الشعوب في تقرير المصير، وحق الأقليات والأكثريات في المجالين العام والخاص؟!
إذا رفضت إيران العرض التاريخي؛ فتمسّكت بسياساتها الخارجية الحالية، وفضّلت منطق القوة في كل من العراق وسورية واليمن ولبنان، على حساب الحلول التوافقية الوطنية المحترمة، فإنّنا نكون قد رمينا الكرة في ملعبها، ونبّهنا الجميع إلى أنّ من يرفض الجلوس إلى طاولة الحوار الحقيقي والتفاهم التاريخي الحضاري هم الإيرانيون وليس نحن!
لكن، ومع الإقرار بدور إيران الخطير في المنطقة العربية اليوم، دعونا نعترف بأمور مهمة، وهي أنّنا نحن -العرب- من رفض تاريخياً التعاون مع إيران والحوار الإقليمي، وتوقفنا في التاريخ عند الثورة الإيرانية (1979)، كما وصفنا بدقّة توماس فريدمان؛ وأنّنا نحن الذين أضعنا الفرصة السانحة خلال مرحلة الرئيس الأسبق محمد خاتمي؛ ونحن الذين لم نصلح دارنا الداخلية ففتحنا الباب لكل من يريد أن يتدخل.
الحوار مع إيران وتركيا هو حوار مع "أهل الدار"؛ فالجار والدار متداخلان، دينياً وثقافياً وسياسياً واقتصادياً. والوصول إلى تفاهمات وصفقات هو الطريق الوحيدة إلى مستقبل غير مجهول الهوية، والذي تمثّله الجثث المرمية في الشوارع العربية بسبب الهوية الطائفية، في نموذج أشبه بالألعاب النارية في حال أخذت الحرب الداخلية مداها الواسع!