الرئيسية مقالات واراء
تختبر الكوارث الطبيعية والحروب والظروف منسوب الوعي والمناعة لدى الشعوب، ومنها من يرسب بدءا من اول السطر، ومنها من يشحن ارادته ويضاعف من استجابته للتحدي وبالتالي يخرج من الامتحان العسير بما يؤهله لأن ينجح في الامتحان الأعسر ! لكن الظروف العادية والايام الرتيبة التي تجري فيها الحياة بقوة العادة لا تكشف شيئا من اسرار التكوين النفسي والاجتماعي والثقافي لدى الناس رغم انهم يثرثرون بلا حدود عن فضائلهم، وفروسيتهم ومدى الايثار المضاد للانانية . يعيدني هذا الى نظرية من اهم نظريات التاريخ، هي نظرية ارنولد توينبي حول ثنائية التحدي والاستجابة، وقد بني هذا المؤرخ رؤياه على مشهد طريف لصيادي السمك، فقد وجد ان هناك نوعا من السمك يتصلب نسيجه اذا نُقل من مكان الى آخر مما اضطر الصيادين الى ابتكار وسيلة تحافظ على مرونة هذا السمك وتديم رشاقته، هي باختصار وضع نوع آخر من السمك المعادي له، بحيث يبقى متحفزا طيلة الوقت وفي حالة دفاع يستدعي معها كل ما لديه من احتياطي . والناس الذين يعيشون في مناطق جغرافية معتدلة نسبيا لم يجربوا حياة الناس في سيبيريا او الاسكيمو او بعض المناطق في الهند حيث يصل الصقيع ذروته وكذلك الحرارة، فهؤلاء بمرور الوقت وبفضل ما سماه توينبي التحدي والاستجابة يتأقلمون ويقاومون، لكن من يعيشون في مناطق معتدلة نسبيا ليس لديهم مثل هذا التأهيل، لهذا ما إن يتعرّضوا لموجات برد شديد او حرّ لاهب لم يألفوه حتى تضطرب حياتهم، وتتكشف على الفور خصالهم وطبائعهم الهاجعة تحت الجلد . ذات شتاء قريب كتبت في هذه الزاوية عن كتاب صدر حديثا بعنوان انتقام الجغرافيا، فالطبيعة التي انتهكها البشر وأفسدوها انتقمت منهم بالتصحّر والجفاف والتطرّف في المناخ . وفي هذه الايام التي لم نألف مثلها من قبل نحتاج في حمى البحث عن ملاذات ونحن نتبع اجسادنا نحو البرودة كالقطط الى التذكير بما اقترفنا بحق الجغرافيا، فجاء انتقامها متحالفا مع انتقام التاريخ .