الرئيسية مقالات واراء
غصّت قاعة المركز الثقافي الملكي، يوم الخميس الماضي، بالمئات من الحضور -بالرغم من أنّ الدعوات خاصة (فكيف لو كانت دعوة عامة؟!)- أغلبهم من النخبة السياسية وقادة الرأي ورجال الأعمال؛ فيهم رؤساء وزراء سابقون، ووزراء وأعيان، وفي مقدمتهم الأمير الحسن بن طلال. جميعهم جاؤوا ليستمعوا إلى صاحب تجربة مهمة وثرية في النهضة التنموية والاقتصادية في بلاده!
لم تقتصر زيارة "الضيف الاستثنائي" إلى الأردن على تلك المحاضرة القيّمة والمهمة (إذ هو لم يخيّب ظنّ السامعين، فقدم زبدة الدروس من النموذج الماليزي)، بل أيضا دعت مؤسسة عبدالحميد شومان (مشكورة) نخبة من السياسيين والمثقفين والشباب إلى لقاءات وحوارات متعددة معه، لتخصيب النتائج المتوقعة للزيارة.
لا يمكن القول بأنّ مهاتير محمد هو العامل الوحيد في نهضة ماليزيا، والنقلة النوعية التي حدثت لها خلال فترة رئاسته للوزراء هناك (1981-2003)، فهنالك عوامل موضوعية وثقافية وسياسية عديدة. لكنّه بلا شك أحد صنّاع هذه النهضة والمخطّط الأبرز لها، وهو صاحب نظريات مهمة في استراتيجيات التنمية والتطوير، فنجح في جسر الفجوة الكبيرة بين المكونات الاجتماعية لماليزيا، وبناء هوية جامعة منفتحة على المنافع الاقتصادية وليست متقوقعة حول صورة موهومة للذات!
في محاضرته التي ألقاها في المركز الثقافي الملكي، تحدث مهاتير عن فلسفة "النظر شرقاً" إلى التجربة اليابانية، بعد أن طرح الماليزيون سؤالاً مفصلياً: كيف استطاعت اليابان النهوض سريعا من عواقب الحرب العالمية الثانية، وتحقيق نهضة اقتصادية سريعة، بالرغم من الخسائر الفادحة والكبيرة؟
اكتشف مهاتير ورفاقه سرّاً مهماً (قد لا يخطر على بال أغلب السياسيين والمخططين لدينا)، هو ثقافي-قيمي، وليس اقتصادياً! ففي ثقافة اليابانيين وقيمهم الأساسية، ثمّة شيء اسمه الشعور بالخجل من الفشل! فالياباني لا يستطيع أن يقبل بالفشل، أو أن يتصالح معه، وقد يفضّل الانتحار على العيش مع هذا الشعور، ما يخلق لديهم دوماً القدرة على النهوض مجدداً والبحث عن الثقة بالنفس. وقد بدأ حكام ماليزيا بغرس هذه الثقافة-القيم في نفوس الماليزيين، ثم بدأوا بمعالجة القيم والثقافة السلبية، فاكتشفوا -مثلاً- أنّ الموظف الماليزي لا يعرف أهمية الاستثمار ولا قيمته وضرورته، لذلك يضع العراقيل البيروقراطية في وجه الاستثمار، فقامت الحكومة بإقناعهم بأنّ الاستثمار هو الذي يأتي لهم بالرواتب ويحسّن من دخلهم وحياتهم، وكلما سهّلوا مهمته انعكس ذلك على الجميع بالخير، وعلى الاقتصاد والدولة وخدماتها وأبنائهم بنتائج إيجابية.
عالجت الحكومة، كذلك، قيماً سلبية أخرى، مثل السرقة والرشوة، كانت تنتشر بين الموظفين الحكوميين. فبدأت بحملة واسعة لإدراج هذا السلوك ضمن قائمة العيب والسوء، ونجحت في الحدّ من هذه الظاهرة، في الوقت الذي كانت تطبق سياسات الإعفاء من الضرائب لتشجيع الاستثمار وتشجيع الماليزيين على العمل.
الفائدة لهذا النموذج المهم، تتمثل في أهمية القيم والثقافة على صعيد التنمية والاقتصاد. وهو الأمر الذي تكاد حكوماتنا تهمله. فمجرد غرس قيمة "الخجل من الفشل" كان كفيلاً بإيجاد حجر الأساس لتغييرات أخرى في القيم والقوانين والتشريعات عموما، والسلوك العام للمجتمع.
ربما لم يكن الوقت متاحاً في تلك المحاضرة المكثّفة لأن يشرح مهاتير بإفاضة أكبر عن العامل الثقافي، وكيف أنّه عمل جاهداً على تغيير ثقافة المالاويين تجاه العمل الخاص وإدماجهم في الدورة الاقتصادية، وتجسير الفجوة بينهم وبين ذوي الأصول الصينية، الذين كانوا يسيطرون على المنافع الاقتصادية بصورة كبيرة!
لكن هذه القصة شرحها مهاتير في كتابه الجميل "طبيب في رئاسة الوزراء"، حيث تحدث عن قانون "التمييز الإيجابي" ومبرراته ونتائجه. وهو الأمر الذي يستحق بالفعل قراءة معمّقة لدينا هنا في الأردن، وتعلّم دروس كبيرة منه، مع الأخذ بعين الاعتبار الفروق الكبيرة ثقافياً واجتماعياً بين الدولتين.