الرئيسية مقالات واراء
لن نجادل الساخطين، أو نهوّن مما حصل؛ لقد غرقت عمان في نصف ساعة. تلك هي الحقيقة المرة، ولا بد من وقفة جدية للمراجعة والمساءلة. متى وكيف؟ هذا متروك للسلطات الحكومية، ولا أظن أن أحدا من المسؤولين كان مسرورا بمشهد عمان يوم الخميس الماضي.
لنحرك عدسة الكاميرا قليلا، ونتمعن الصورة من كل جوانبها؛ فوسط مشاهد الأنفاق والشوارع الغارقة بالمياه، والبيوت المحاصرة، والمركبات التي تتدحرج في الطرقات، كان هناك رجال شجعان؛ رجال أمن ودفاع مدني، وعمال نظافة، ومواطنون، غامروا بحياتهم لمساعدة المحاصرين، وفتح قنوات التصريف في الشوارع، ونقل المصابين إلى المستشفيات.
لم يحركهم الواجب فقط، بل حسهم الإنساني، وروح النخوة في الصدور. رجال المرور تحولوا إلى غطاسين في الأنفاق، وعمال نظافة حاولوا جاهدين، بما تيسر من أدوات متواضعة، تسليك المياه في القنوات. مشاهد "الفيديو" التي نقلها نشطاء "التواصل الاجتماعي" لأفراد الدفاع المدني وهم يجاهدون لتخليص عائلة حاصرها بحر من المياه في تسوية بناية، بدت وكأنها لقطات من فيلم سينمائي متقن، وليس مشهدا واقعيا نقله هواة من موقع الحدث. لقد نجحوا بالفعل؛ أنقذوا عائلة مكونة من أربعة أفراد من موت محقق.
لكن، وكما هي الحال في مثل هذه الظروف الاستثنائية، لا تكتمل الصورة من دون تسجيل حوادث مأساوية. حادثة غرق الطفلين المصريين في قبو بناية هي، في اعتقادي، الأكثر إيلاما. فيديو الأب المكلوم يفطر القلب حقا؛ شاب مصري تغرب، وتحمل رحلة الشقاء من أجل تأمين مستقبل أفضل لأطفاله، ثم وفي غمضة عين يفقد اثنين منهم. يا لها من تعاسة بعد كل الهوان الذي عاشه من أجلهم!
لم يبخل الأردنيون بمشاعر التضامن مع العامل المصري؛ مواقع التواصل الاجتماعي غصت بعبارات التضامن. لكن المأساة تستحق تدقيقا أعمق في ظروف حياة حراس البنايات السكنية، وجلهم من الأشقاء المصريين.
هل تكفي المشاهد المشرقة لنغضّ الطرف عن وقائع الخميس المخجلة؟
أبدا. لكن حين تواجه المجتمعات لحظات صعبة، وتغرق في مشاعر الإخفاق والفشل، عليها أن تفتش عن أولئك الأشخاص الشجعان، لتستمد من تجاربهم العزيمة والطاقة الإيجابية.
كانت هذه ميزة الأردنيين على الدوام؛ بلد فقير بموارده، وشعب تعرض لامتحانات وجود لا تنتهي، وابتلي في تاريخه بحكومات عاجزة ومسؤولين بلا ضمير، لكنه برغم ذلك كله، ظل يحلم بحياة أفضل. لم يحقق ما يتوق إليه، غير أنه كسب الرهان في كل الأحوال.
في اليومين الماضيين، بلغ المزاج السلبي عند العَمّانيين أعلى درجاته. إنهم على حق؛ عمان مدينة بهية وادعة، وآمنة، لا تستحق هذه "البهدلة". بعد حين ستهدأ النفوس، ويعود الناس إلى صخب الحياة ومتاعبها اليومية. وستأتي أيام جميلة على عمان، ينسى فيها الناس ما عاشوه من معاناة يوم الخميس، وما تكبدوا من خسائر مادية.
المهم أن لا ينسى أصحاب القرار في الحكومة وسواها من مؤسسات الخدمة، ذلك اليوم؛ كي لا يتكرر مرة ثانية، أو عاشرة. ونصيحتي لهم أن يشاهدوا "فيديوهات" الرجال المخلصين في الميدان، ليستمدوا منهم العزيمة والشجاعة، وقبل ذلك الإخلاص في العمل.