الرئيسية أحداث دولية
أحداث اليوم -
اختارت قناة الـMTV اسم سناء_محيدلي في تقرير لها عن "الانتحاريات من النساء" في التاريخ الحديث، بدءاً بانتحارية باريس ورجوعاً إلى الثمانينات إلى "اللبنانية محيدلي التي فجرّت نفسها لمقاومة الاحتلال الإسرائيلي عام 1985" كما ذكر التقرير. ثم قامت الدنيا ولم تقعد وشُنّت حملة على القناة لم تقتصر على مواقع التواصل الاجتماعي.
فالقناة التي سبق وأن انتُقدت لاختيارها تعابير تتعارض ومبادئ المقاومة، تمّ لومها هذه المرة لا لأنها لم تعترف بفعل "المقاومة" الذي نفّذته سناء ولا لأنها استخدمت عبارة "الاحتلال الإسرائيلي"، بل لأنها انتقت اسم سناء لتعرِضَه بين انتحاريات جنّدهنّ تنظيم "داعش" الإرهابي. وقعت القناة إذن، من جديد في شرك المعارضين والمنتقدين لها. فهل تصحّ تسيمة سناء بالانتحاريّة؟ وما الفرق بين تعبيري استشهاديّ وانتحاريّ؟ وأين دور العلم والمثقفين من تقييم المصطلحات الحديثة؟
المحطّة والسجال الدائم
عن السجال القائم بين الـMTV والقائلين أن اسم سناء لا يُدرج بين تلك الأسماء، فيصحّ وصفه بالسجاليّة الإعلاميّة وهي مفهوم يعتبر أن أي خطابين سياسيّين لا يلتقيان، بل يتشكل الأول داخل الثاني. ومن هذا المنطلق فإن خطاب المحطّة مهما كان صحيحاً أو متطرفاً سيتعارض حتماً مع رأي خصومها سياسياً وخطابهم، ليس لأن المحطة أخطأت فحسب، بل لأن عدم الفهم المشترك هو الذي يحدّد نظرة خصومها لتقاريرها. فترجمة الآخر تتمّ وفق منظومتنا الخاصة، الأمر الذي يجعل خصوم المحطة يُترجمون تقريرها فوراً - ولو كان موضوعياً- بطريقة سلبيّة.
فالإيجابي سلبيّ دوماً لدى الخصم. ولفظ اسم سناء ضمن تقرير عن انتحاريات "داعش" سيُترجم حتماً لدى الخصوم بأنه اعتراف بأن سناء انتحارية كانتحاريات التنظيم الإرهابي. غير أن التقرير لم يقُل ذلك. بل قال ما حرفيّته أنها "فجّرت نفسها لمقاومة الاحتلال". في الواقع لا يتعامل الخصوم السياسيون مع المحطة بل مع ما ترمز إليه: ورمزية الـMTV في عقول مناصري المقاومة تنطلق من مواقفها السياسية.
يُقال في علم الخطاب إنه كلما تواصلنا ساء فهمنا لبعضنا وهذا تحديداً ما حصل بعد تقرير المحطة المذكورة. فالحرب الكلامية تقوم على تجريد الآخر من صفاته الحسنة، الأمر الذي يحدث تماماً مع الـMTV من خلال اتهامها بالعمالة تبعاً للألفاظ التي تنتقيها تعليقاً على عمليات العدو الإسرائيلي ضد غزة أو القدس وسواها. أساساً فإن حرباً كلامية تدور دوماً بين المحطات وخصومها، انطلاقاً من مسألة عدم الفهم المشترك.
الألسنيّة تعارض السائد
لكن هذه السجالية الإعلامية التي قوامها الإعلام، لا تستوي من دون طرف ثالث هو الجمهور، الذي يبقى له تقييم التقرير والتوصيف انطلاقاً من خلفيّاته ومواقفه واعتقاداته، وبناءً عليه فإن الجمهور سينقسم تبع موقفه السياسي المسبق سواء من المحطة أو فعل محيدلي نفسه. لكن ما يطبع إعلامنا هو الطابع المسرحي لمجموعة السجالات القائمة بما يخدم المنطق التجاري، لذا فإن البحث عن الحقيقة أو التعبير الأصحّ يبدو عمليّة صعبة ومعقّدة.
تختلف المفاهيم السائدة اختلافاً كلياً مع العلم. توصيفات الأخير خارجة عن العاطفة وبعيدة عن التعاطف مع أي قضية. موقف الألسنيّة يختصره أستاذ اللغويات في جامعة القديس يوسف الدكتور سيرج غالاليان، قائلاً "الاستشهاد يكون فقط في سبيل الله ودفاعاً عن ديانة المؤمن، والأمر يختلف بين المسيحية والإسلام إذ يدخل الجهاد لدى الأخير. ثمة اشتراك لفظي وتعدد معانٍ للكلمات المستخدمة. إن استعمال كلمة شهيد تزايد في الفترة الأخيرة، بهدف الرفع من قيمة موت أولئك الأشخاص، إذ بات يحمل طابعاً سياسياً، لكنه في الأصل روحي ديني. لكن الواقع أن كل من يذهب في سبيل قضية سياسيّة هو قتيل، على الأقل هكذا يسمونهم في اللغات الأجنبية. الأمر يختلف لدينا من دون مسوّغات".
هذا هدف سناء محيدلي
إذا كان جان بيار فاي قد قال "إن الأزمات الكبرى تُولِّد المفاهيم، وأحياناً تكون المفاهيم قاسية"، فذلك يشرح بروز مفاهيم حديثة نسبياً أولّها الإرهاب والانتحاريّون والانغماسيّون والفدائيّون والجهاديّون... وهنا علينا أن نبحث عن دور المثقف في الأنسنة، وفي تقييم وشرح وإعادة قراءة هذه المفاهيم الآخذة بالانتشار في زمن اخلتفت فيه أسباب مقاومة الاحتلال عبر العمليات الانتحاريّة، بل أصبحت تعني قتل أكبر نسبة من الأبرياء وفق مفاهيم "داعش".
فالصحافيون والإعلاميون في أي وسيلة ليسوا المعنيين بهذا الأمر، بل مجموعة المثقفين والفلاسفة والباحثين وعالمي اللغة وسواهم. وعليه فإن سناء محيدلي لم تفكّر أبداً في اللقب أو التوصيف - سواء العلمي أو العاطفي – الذي ستنتزعه بعد أن ترتقي بطلة قوميّة. فالتي قدّمت جسدها قنبلة متنقّلة لمقاومة العدوّ الإسرائيلي، لم تكن تهدف إلى زعزعة تفاهمنا وتواصلنا الإعلامي، بل قدرة العدوّ على سحقِنا يوم كنّا الأضعف في المعادلة.