الرئيسية مقالات واراء
أحداث اليوم - -
انور الوريدي
بعد الغزو العراقي لدولة الكويت وخلال حشد قوات التحالف لأساطيلها لضرب العراق وكانت شعبية المرحوم صدام حسين قد جاوزت عنان السماء عند معظم الشعوب العربية إذ رأت فيه المخلص والمنقذ والمحرر الذي بعثته العناية الإلهية؛ سرت إشاعة ظهور صورة صدام على صفحة القمر وما زالت هذه الإشاعة تتكرر.
وهناك الكثير من المؤمنين بها حتى الآن، وقد تكررت بعيد إعدام صدام صبيحة عيد الأضحى ،وقليلون هم الذين يعرفون أنني شخصيا كنت من أطلق هذه الإشاعة كمزحة لم أكن أعتقد أنها ستسري وتنتشر وتشيع وتجد الملايين ممن يؤمنون بها وإليكم الحثيات والتفاصيل : عدت قبيل الغزو بشهر من الكويت إلى الأردن عن طريق البصرة بغداد، وتوقفت يومين في العاصمة العراقية وابتعت بعض الكتب منها كتاب كان قد صدر حديثا ونشرته على حلقات جريدة الأنباء الكويتية بعنوا ن' عبد الكريم قاسم' للكاتب العراقي صلاح المختار ، والكتاب يتحدث عن الزعيم العراقي عبد الكريم قاسم وعن الثورة التي قادها ضد الملكية، وعن حكمه وتعظيم من حوله له وإطلاقهم لقب الزعيم الأوحد عليه، وعن تعليق صوره ونصب تماثيله في كل مكان، ويشير الكتاب عرضا إلى تواضعه و أمانته حيث يقول الكاتب: بأنهم وجدوا في رصيده في بنك الرشيد بعد إعدامه مبلغ سبعة دنانير عراقية ، وهو لم يكن متزوجا وقد كان يسكن في غرفة في مبنى وزارة الدفاع .
ومما جاء في الكتاب: أن بعض من كانوا حوله روج لإشاعة ظهور صورته على القمر ، فلفتت نظري هذه الطرفة وضحكت كثيرا عليها ، وقد ذكرتني بصديق اسمه عمر روى لي كيف أنه عندما كان طفلا وبعد أن تناول طعام الإفطار في رمضان؛ صعد إلى سطح منزلهم وكان متعبا وعندما نظر إلى صورة القمر خُيل إليه أنه يرى صورة رجل عجوز بلحية كثة في القمر، وحدثني كيف أنه أخذ يرتجف من الخوف ونزل مرعوبا وأخبر أهله بذلك وظل يخاف النظر باتجاه القمر عندما يكون وحده .
قبيل بدء قوات التحالف بحربها ضد العراق عام( 1991) ذهبت وصديقي توفيق لحضور أمسية شعرية للشاعر الفلسطيني العظيم محمود درويش في قصر الثقافة في العاصمة الأردنية عمان، وكما هو معروف عن أمسيات درويش: حضور بالآلاف ومن هم وقوف أكثر من الجالسين وتصفيق مدو وجو متميز يبقى في االذاكرة ، وبعد أن ألقى درويش عددا من قصائده قال : سأقرأ شيئا هو نظم لا شعر ولكنه فكه طريف وتلاه وفعلا أثار جوا من الحبور، وهي إن جاز التعبير قصيدة ساخرة يتهكم فيهاعلى الحكام العرب ، أذكر منها: (أنا الزعيم أنا ألقدر وصورتي على القمر ).
وضجّت القاعة بالضحك والتصفيق ، وأعادتني عبارة (صورتي على القمر) إلى صورة عبد الكريم قاسم وإلى صورة العجوز الذي رآه صديقي عمر . في اليوم التالي وبينما كنت أجلس مع صديقي توفيق مساء على سطح منزلهم وكانت أجواء الخوف والحرب _التي لا يعلم أحد إلا الله إلام ستؤول_ تسيطر على المنطقة والناس لا حديث لها سوى الحرب،وكنت وصديقي بالطبع نتحدث عن الحرب القادمة وعن صدام، وأخذنا الحديث إلى تاريخ العراق الحديث وعبد الكريم قاسم وصورته على القمر، وحدثت صديقي توفيق عن صورة العجوز الذي رآه صديقي عمر وذكرنا قصيدة درويش الساخرة وصورة الزعيم على القمر وضحكنا ، وعندما قمت لأغادر كان القمر بدرا أمام عيني فقلت لصديقي ممازحا: انظر هذه صورة صدام أيضا على القمر وليس عبد الكريم قاسم فقط ولا العجوز ولا الصورة التي تحدث عنها درويش فضحك صديقي ونظر إلى القمر وقال نعم صحيح ها هي صورته .
كان الناس في تلك الفترة تسيطر عليهم مشاعر من الخوف والامل وها هو صدام يتحدى القوة الأعظم وربما يكون مبعوثا من الله لتخليص الأمة مما هي فيه من ذل وهزيمة ، وكان البعض يشبهه بصلاح الدين وهم مهيأون لقبول أية خرافة تبث فيهم الأمل ، والإنسان في مثل هذه الحال على استعداد لتصديق أي ايحاء وتخيله وقد يلغي تفكيره ومنطقه بسهولة ( نظرية القطيع ) _ ولو قلت لشخص ما إن فلانا يشبه فلانا فسوف يذهب تفكيره إلى الشبيه ويستحضره ويقول لك: نعم مع أنه قد لا يكون بينهما أي وجه للشبه _ المهم وقف صديقي توفيق وقال بصوت مرتفع: نعم صورة صدام في القمر وضحك ثانية ، وسمعنا بعضُ الجيران الجالسين على أسطح منازلهم، وسمعنا طفلا يقول لأبيه : بابا يقولون صورة صدام على القمر، فوقف الأب ونظر وقال: نعم هذا هو . ووالله ما هي إلا دقائق حتى رأينا معظم الجيران على الأسطح ينظرون إلى القمر وبقي الناس حتى ساعة متأخرة منى الليل ينظرون، وفي الصباح صار التاس يسألون بعضهم بعضا هل رأيتم صورة صدام في القمر ؟ وفي اللبلة التالية تكرر حديث الناس وامتد إلى أحياء مجاورة ، وعبثا كنا نحاول إقناع الناس بأن هذه كذبة بل نكتة ابتدعناها، وكانوا يسخرون منا عندما نقول لهم ذلك ويقولون : لا نحتاج إليكم فالامر واضح والصورة بينة.
وعند ذهاب أقاربنا وجيراننا إلى أعمالهم كانوا يخبرون زملاءهم ومعارفهم في المدن الأخرى ، وانتشرت الشائعة وتلقفتها إحدى الصحف وظلت الكذبة تتسع وتكبر حتى عمت البلاد العربية معظمها بين مصدق ومكذب . أقول كان الناس وما يزالون يقولون هذه طاقية صدام ( البوريه العسكرية ) وهذه ملامحه وهذا جانب من وجهه وهذا شنبه ، وأنا أٌقول : ولو أراد الله أن يظهر صورة صدام أو غيره كمعجزة فإنه سظهره بوضوح لا لبس فيه ، وسوف يُرى كما تُرى الصورة الحقيقية لا ملامح مبهمة ، ثم أن التاريخ لم يروِ أن صورة لنبي أو لولي ظهرت لا على القمر ولا على سواه فكيف لصورة صدام أن تظهر ؟ وكفانا خرافات ودجل فالناس يعيشون عصر العلم والعقل ونحن ما زلنا نعيش في عصور الجهل والانحطاط . من هنا فأنا أقدم بملء الفم اعتذاري عن هذه الخرافة التي ساهمت عن غير قصد في انتشارها .