الرئيسية مقالات واراء
ما أبشعها تلك الصور التي التقطتها عدسة الزميل محمد القرالة من قرية البربيطة في محافظة الطفيلة! ولسنا نعلم ما هي النوايا "الخفية!" لنشرها، ولماذا تعمدت كاميرا الزميل أن ترينا ما لا نحب! أظن أن القرالة كان متآمرا علينا؛ لأنه بصوره عمد إلى تعريتنا، مُظهراً عيوبنا وقصورنا. كما كشف لنا عن أن ضمائرنا ماتت، فلم تعد عيوننا تبصر الحقائق.
حذاء الفتى الممزق قال لنا إننا بعنا قيمنا في صفقة لم نعلن عن تفاصيلها، ومعها بعنا ما تبقى من إنسانيتنا في "أكازيون" مفتوح. أما أصابع قدمه التي تورمت من البرد، فلخصت كل المشهد: نحن غارقون في العسل، فيما هناك أطفال وشبان غارقون في الوجع والفاقة.
إلا أن البشاعة لم تتوقف عند مشاهد الفقر تلك؛ بل تعدتها نحو النيل من طيبين أوجعتهم صور أطفال البربيطة، فاستجمعوا حسهم الإنساني، وهبوا مبادرين لنجدة أولئك الأطفال؛ مقدمين، على استحياء، ما تيسر لهم من موارد وإمكانات. لكن هنا صعدت الأصوات الناعقة العدمية، تقصف إنسانية أولئك النفر الطيب.
تُرى، لماذا تعرض هؤلاء المبادرون لتلك الحملة الظالمة؟ ألم يكن الأولى أن نعلي أسماءهم ليصبحوا نماذج لفعل الخير والمسارعة إلى إغاثة الملهوف؟
الانتقادات، وللأسف الشديد، تم توجيهها ليس فقط إلى تلك القلة الخيرة، بل أيضا إلى إنسانيتنا التي نالها القصف العشوائي؛ قصف نحو صميم عمل الخير في جوانيتنا، سعى به المنتقدون إلى قتل حتى مجرد شعور التعاطف تجاه أي محتاج.
الكارهون المبغضون لكل شيء، خرجوا يعلنون إدانتهم لمن بادر إلى عون أطفال القرية النائية. والسؤال الأول والأخلاقي لهم: ماذا فعلتم أنتم غير النقد والشجب والشماتة والتشفي، وبيع المواقف البائسة على منصاتكم الاجتماعية؟
أغلب الظن أن الفريق نفسه، أو آخر يشبهه تماماً، جلس خلف منصته ليدين أبرياء من إخوتنا قُتلوا على يد إرهابي في إسطنبول! وهم بإدانتهم لا يرون بشاعتهم الخاصة، ورائحتهم الكريهة التي تفوح في كل موقف يتطلب منا قليلا من الحس الإنساني.
هذا الفريق عبّر عن التشفّي بالموت، ووجه لومه لمن رحلوا، آخذاً كل الوقت في إصدار أحكام وتقييمات لاأخلاقية؛ إذ يعبّر صراحة عن كرهه للحياة والفرح، في انعكاس لمستوى منحط من الإنسانية والأخلاق إن وجدا لديه. وبما يؤكد حقيقة أن القاتل بالبندقية والحزام الناسف وسواهما، لا يختلف كثيرا عن قاتل بالقلم أو لوح أرقام وأحرف (كيبورد)؛ لأن الاغتيال حقيقة متجذرة في الحالتين.
بين ضحايا البربيطة وضحايا إسطنبول فرق كبير طبعاً، لكنهم في النهاية يلتقون على أنهم جميعا ضحايا غياب الإنسانية وتكسر القيم والأخلاق؛ مرة على مقصلة النقد العدمي، وأخرى على مقصلة "داعش". وما بين الحالتين وردود فعل المجتمعات، نكتشف كم أصبحنا بشعين؛ فلا فعل الخير يسكتنا، ولا قتل الفرح والحياة يحزننا! وهنا لا بدّ أن نكتشف أيضاً، بالمحصلة، المنزلق السحيق الذي تردّت إلى قاعه إنسانيتنا.
لو كنا أسوياء، لقدّرنا الخيّرين الذين هبوا لنجدة أطفال البربيطة، ولشكرنا محمد القرالة على "مؤامرته" التي عرتنا وكشفت تشوهاتنا. ولو كنا مجتمعات متحضرة، لما وقفنا مع الإرهابيين والدواعش ضد الحب والفرح والحياة. لكننا، لأسباب ربما نعرفها وأخرى نجهلها، صرنا ننحاز للبشاعة والكراهية والموت.