الرئيسية مقالات واراء
أدخل الجثمان إلى الجامع. وبعد صلاة الظهر، ذكّر الإمام المصلين بصلاة الجنازة، وهي أربع تكبيرات؛ الأولى قراءة الفاتحة، ومن ثم الصلاة الإبراهيمية، فالدعاء للميت وهو ذِكر، ومن ثم الدعاء لعامة المسلمين.
انتهت الصلاة، وسارع أقارب المتوفى إلى حمل الجثمان إلى باب المسجد، حيث كان هناك من سبقهم في لبس الأحذية، وينتظرون ليتسلموا الجثمان منهم.
سارت الجنازة وقد حمل أقارب وأصدقاء المتوفى الجثمان من الجامع إلى المقبرة القريبة منه مشيا على الأقدام. ولأن المرحوم لم يعترف في حياته بالـ"ريجيم"، ولا بالحمية الغذائية، وتصادف أنه في الليلة الأخيرة له في الدنيا فُتحت شهيته على الطعام، وطلب أن يكون الغداء "منسفا" والعشاء "صاجيّة"، و"محلّي" (غفر الله له ذنوبه) بنصف كيلو "ناعمة" مع لتر مشروب غازي؛ فقد كان الجثمان من الوزن الزائد يتمايل فوق رؤوس المشيعين. ونظرا للخشوع في مراسم التشييع، كان من يشعر بالإرهاق يخجل من الانسحاب من حمل الجثمان، رغم شعوره بأعراض بداية "الدسك".
انتبه أحد المشيعين لمعاناة من يحملون الجثمان. لذلك بدأ يستنجد بمن يسير خلف الجنازة: "ريحوا بعضكو"؛ فينسحب من كان يحمل الجثمان، ويدخل غيرهم. وكلما شعر البدلاء بالإرهاق الشديد يتدخل هذا المشيع وينادي مرة أخرى: "ريحوا بعضكو"؛ فينسحب بعضهم ويدخل غيرهم. وكلما لاحظ المشيع أن الجثمان كاد يسقط ينادي: "ريحوا بعضكو"، فينسحب من كان يحمل الجثمان فاتحا المجال لغيره حتى ينال الأجر والثواب... و"الدسك".
هكذا سارت الجنازة ولا تسمع إلا قول: "ريحوا بعضكو"، حتى وصل المرحوم بسلام إلى القبر، مخلفا 17 شخصا يعانون "الدسك"، و22 آخرين يعانون انحرافا في الفقرات، إضافة إلى 50 على الأقل انزلقت غضاريفهم، من الأقارب والأصدقاء والجيران!
دخلت الحكومة إلى "الدوار الرابع"، فذكّر الرئيس وزراءه بأن البيان الحكومي فيه "أربعة ملفات"؛ العجز، والمديونية، ومن ثم الدعاء للميت وهو مواطن، يليه الدعاء لعامة الأصدقاء والمانحين.
يخرج الوزراء من الجلسة وهم يحملون الملفات المثقلة بالعجز والمديونية والترهل. وما إن يبدأ مشوارهم، حتى يشعروا بالإرهاق الشديد من ثقل المسؤولية، فيلاحظ الرئيس أنهم متعبون، فينادي: "ريحوا بعضكو". هنا يخرج بعضهم في التعديل الحكومي، ويدخل غيرهم. ومن ثم يسير الوزراء الجدد على نهج أسلافهم في حمل الملفات المثقلة بالدين. وحين يرى الرئيس أن بعض الملفات لا قدرة لبعض الوزراء على حملها، ينادي مرة أخرى: "ريحوا بعضكو"، فتخرج مجموعة في التعديل ويدخل غيرهم ممن يبحثون عن شرف خدمة الوطن في الوزارة. وهكذا يبقى الرئيس يتابع ترنح الوزراء في حمل الملفات، وعند الحاجة ينادي فقط: "ريحوا بعضكو"، حتى وصل الاقتصاد بهذه السلسلة المتواصلة من الوزراء والتعديلات والتغييرات الحكومية بسلام إلى القبر.
أنتم "ريحوا بعضكو"، ونحن "إنا لله وإنا إليه راجعون".