الرئيسية مقالات واراء
جاء خبر توقيف منشئ صفحة "مقاطعة شركات الاتصالات" على موقع "فيسبوك"، صاعقاً؛ ويطرح تساؤلاً عن أسباب الذهاب إلى هذا الحد من الضيق بالاختلاف، بحيث لا يُحتمل حتى أحد أكثر أشكال الاحتجاج رقياً، رفضا لقرارات يظن المستهلك أنها مجحفة بحقه!
لكنّ للقصة، دائماً، وجها آخر. فمنشئ الصفحة استثمرها للتحريض والشتم، واستغل رغبات كثير من المؤيدين لفكرة المقاطعة كأداة للتهديد. فوجود مليون معجب بالصفحة، لا يعني أن هؤلاء سينزلون إلى الشارع، كما يظن القائم عليها، ولا سيما أن فكرة المقاطعة هي، ابتداء، وسيلة حضارية للرفض وليس للتخريب.
ثقافة المقاطعة في مجتمعنا ما تزال حديثة، لكنها بدأت تتكرس فعلاً خلال الفترة الماضية. إذ ظهرت بداية، وبشكل واضح، في مبادرة "طفّي الضو"، عقب توقيع الاتفاق مع شركة "نوبل إنيرجي" الأميركية لشراء الغاز من إسرائيل. وتمثلت الحملة الواسعة بإطفاء الأضواء لمدة ساعة احتجاجا على شراء الغاز من المحتل. وقد ظلت المبادرة حاضرة، واستجابت لها شريحة واسعة من المجتمع، حتى أغرقت صور الظلمة مواقع التواصل الاجتماعي، تأكيداً للالتزام بالدعوة، انطلاقاً من أن إبرام الصفقة يرهن مستقبل الوطن، عبر اقتصاده، لإسرائيل.
لم تتمكن الحملة من إلغاء الاتفاق؛ صحيح. لكنها وضعت الحكومة تحت ضغط كبير اضطرها إلى مراجعة بنود الصفقة لتكون أكثر إنصافا للأردن. وما تزال الحملة ماضية بسلمية، تعبيرا عن رفض الاتفاق من حيث المبدأ.
المحاولة الأخرى التي شهدناها للمقاطعة، كانت حينما قرر المستهلكون الاحتجاج على ارتفاع أسعار سلعتين أساسيتين، هما البيض والبطاطا. إذ بسرعة انتشرت الفكرة، ما أدى بالنتيجة إلى تراجع الطلب على هاتين السلعتين بشكل ملحوظ، وبالتالي تراجع أسعارهما؛ ربما ليس إلى الحد المطلوب، لكن يظل أن الهدف تحقق جزئياً.
اليوم، يمتد حديث المقاطعة إلى شركات الاتصالات والحكومة، احتجاجا على التوجه لفرض مزيد من قرارات الجباية على الاتصال والبيانات. وتتمثل المبادرة هنا بإغلاق الهواتف الخلوية لمدة 24 ساعة، تعبيرا عن رفض القرارات. وفي وقت تتفاوت التقديرات بشأن مدى تأثير ذلك سلبياً في الشركات، تبقى فكرة المقاطعة سبيلاً حضارياً لقول "لا"؛ بطريقة سلمية بعيدة عن العنف والتحريض.
المقاطعة لا تخرج عن كونها وسيلة للتعبير عن الرأي. وهي لذلك يجب أن تبقى بسلميتها مصانة. وكثير من الشعوب لجأت إلى هذه الأداة الحضارية لمواجهة الظلم الواقع عليها، تماما كما حدث إبان حركة الحقوق المدنية في أميركا التي نتغنى اليوم بمنسوب الحريات والديمقراطية فيها.
كما إن تكرار تطبيق مبدأ المقاطعة، وبعيدا عن الأثر الآني، يخدم في خلق أجيال تدرك وتستوعب المبدأ، ليكون جزءا من سلوكها. إذ طالما نحن مجتمعات استهلاكية، فإن علينا تعلم ثقافة المقاطعة لضبط السوق وكبح جماح أطماع تجار، فلا يكون المستهلك هو الضحية دائماً.
المقاطعة سلاح، قد يصبح قاتلاً. لذلك، علينا تعلم كيف ومتى نستخدمها لتبقى سلمية، ولا سيما أن أساليب التعبير السلمية قد تكون بدورها أقوى من الرصاص والعنف في مواجهة كل أشكال الظلم والاستغلال اللذين يتعرض لهما المستهلك.
وثقافة المقاطعة مهمة في تطور وعي الشعوب، لتحقيق هدف معين. وعلى المسؤولين؛ في القطاع العام أو الخاص، التعامل باحترام مع هذا النمط من الاحتجاج، كما أن يستوعبوا الرأي العام وطموحاته، ويتعاملوا معه بديمقراطية وانفتاح، بدل ضيق الأفق ورد الفعل السلبي. فالمقاطعة تعني أمراً واحداً: إن وعي المجتمعات يتشكل، وينمو ويتطور. وعلى الحكومات أن لا تضيق بهذا الوعي، بل أن تستحسنه؛ لأن التعبير عن الرأي سيبقى حقاً كما هو حاجة، لكنه بالضرورة ليس أداة للتحريض والقفز عن الثوابت والمسلمات، وإلا أصبحت القضية خاسرة.