الرئيسية مقالات واراء
حتى قبل أن يتسلم الأردن رسميا رئاسة القمة العربية المقررة في عمان "منطقة البحر الميت" نهاية الشهر المقبل، يخوض الملك عبدالله الثاني معركة دبلوماسية باسم العرب جميعا في واشنطن.
تصوغ النخبة الجديدة الحاكمة في أميركا هذه الأيام سياساتها الداخلية والخارجية وسط ضجيج يتردد صداه في كل مدن أميركا وعواصم العالم؛ سياسات الهجرة المثيرة للجدل، وأجندة جديدة للحرب ضد الإرهاب، ومقاربة مختلفة لعملية السلام المتوقفة في الشرق الأوسط، يُخشى أن يقتل بعضُ بنودها ما تبقى من أمل في إحيائها.
اكتفى غالبية العرب؛ حكومات ومنظمات شعبية، بإصدار البيانات المنددة بنوايا الإدارة الأميركية بنقل السفارة الأميركية إلى القدس المحتلة. وليس في جعبة هذه الحكومات والمنظمات للمستقبل سوى إصدار المزيد من بيانات الاستنكار، والاحتجاج في الشوارع.
الملك تبنى نهجا مختلفا، يستبق اتخاذ القرار بحملة دبلوماسية مكثفة في أوساط المشرعين وأصحاب القرار الأميركيين، لإقناعهم بالمخاطر الكارثية المترتبة على الخطوة. ومع معرفة الملك الأكيدة بأن المجاهرة بمعارضة توجه معلن للرئيس دونالد ترامب، ومن على منصات "كابيتول هاوس"، لا تعجب أبدا أصحاب الرؤوس الحامية في إدارة ترامب، ولا اللوبي الإسرائيلي في واشنطن، إلا أنه لم يتردد لحظة في فعل كل ما بوسعه لتطويق الاندفاعة "الترامبية" لنقل السفارة، وحشد الأدلة والبراهين، لتبيان خطورة هذه الخطوة على أميركا نفسها قبل دول المنطقة، معتمدا على أسلوب الحوار والإقناع من موقع الحليف والصديق للولايات المتحدة في المنطقة.
وسائل الإعلام الإسرائيلية المحسوبة على اليمين، استشعرت خطورة مهمة الملك في واشنطن. فذكرت صحيفة "معاريف" بصريح العبارة، أول من أمس، أن الملك عبدالله الثاني توجه لواشنطن لإحباط خطط عاجلة لنقل السفارة الأميركية إلى القدس المحتلة.
الملك لم يخف ذلك أبدا، وقال للمشرعين في الكونغرس إن قرار نقل السفارة سيقوّض فرص السلام وحل الدولتين، وسيغذي اليأس والغضب في العالم العربي والإسلامي، وسيمكّن المتطرفين من نشر أفكارهم وأجنداتهم الظلامية.
ووسط حالة من هستيريا العداء للمسلمين في أوساط الإدارة الجديدة، وقراراتها بمنع دخول رعايا سبع دول إسلامية، شرح الملك لأعضاء مؤثرين في الكونغرس خطورة سياسات العداء للمسلمين، مذكرا الجميع بأن المسلمين هم ضحايا الإرهاب والتطرف قبل غيرهم من شعوب العالم.
ليس سهلا أبدا على زعيم دولة حليفة للغرب، وتعتمد في موازنتها أكثر من أي وقت مضى على المساعدات الأميركية، وعلى دعمها العسكري في مواجهة ظروف إقليمية ملتهبة، أن يذهب بنفسه إلى عاصمة القرار الأميركي، ويدخل في سجال مع وجهة النظر السائدة هناك، ومع إدارة لا تحتمل سماع انتقادات مواطنيها لسياساتها.
لكن لم يكن هناك من خيار سوى الاشتباك الإيجابي، لاحتواء الوضع المتدهور قدر الإمكان، والمساهمة البناءة في صوغ سياسات أقل ضررا بقضايا العرب، واستدراك ما يمكن استدراكه من قرارات.
وعادة ما يراهن الملك على ما لديه من مخزون ثقة واحترام عند النخب السياسية في واشنطن. وقد أظهرت سلسلة الاجتماعات التي عقدها خلال اليومين الماضيين، أن الرهان كان في محله؛ فقد استقبل أعضاء بارزون ملاحظات الملك وتقديراته للموقف الحالي في المنطقة بكثير من التقدير، عكسته تصريحاتهم الصحفية بعد اللقاء.
كان سهلا على الملك أن يجلس في عمان ويطلق تصريحات منددة بالتوجهات والقرارات الأميركية، لإرضاء الشارع العربي؛ أو أن يتجنب اتخاذ مواقف من أصله، كما يفعل كثيرون.
لم يخضع للمنطق الشعبوي، ولم يكن ليقبل التخلي عن مسؤولياته الوطنية والقومية؛ فتجاهل كل الاعتبارات البروتوكولية التي انشغل بعضنا في السؤال عنها، وتوجه إلى حيث تصنع السياسات في واشنطن.