الرئيسية مقالات واراء
المخجل والمعيب أن يمرّ علينا مجرد مرور التقرير الأخير لمنظمة العفو الدولية "المسلخ البشري: عمليات الشنق الجماعية والإبادة الممنهجة في سجن صيدنايا بسورية"، بدعوى أنّ هذه "القصص" أصبحت معروفة لكثير من الناس. ذلك أنّ مثل هذا المنطق (أي تجاهل التقرير) فيه استهتار بالقيم الإنسانية الأساسية؛ ولا سيما الحق في الحياة والكرامة، بل وفي صفة الإنسانية نفسها أولاً. وفي هذا المنطق، ثانياً، شرعنة غير مباشرة لهذا السلوك البربري الهمجي، بدلاً من التركيز على شناعته وفظاعته بوصفه جريمة مرعبة ضد الإنسانية، كما فيه عدم احترام لحجم الكلفة الباهظة إنسانياً للضحايا ثالثاً.
ما المطلوب؟ أن تقرأ التقرير وتنشره، وتفضح فاشية هذا النظام الدموي المجرم، وتعرّي من يؤيدونه وينسون حجم الدمار الإنساني والأخلاقي الذي تسبب فيه. ولن تدرك خطورة التقرير وأهميته إلا إذا أغلقت عينيك -بعد قراءة التقرير- وتخيلت نفسك واحدا من عشرات الآلاف الذين تعرّضوا لهذه المأساة اللاإنسانية، وأنك تتذكر ما حدث، كما فعل الشهود في التقرير؛ من المعتقلين والسجناء، والسجّانين والأطباء والقضاة العسكريين الذين هربوا، ثم قاموا بتسجيل شهاداتهم الواردة!
أغلق عينيك إذاً، وتخيّل نفسك طالباً جامعياً أو طالباً في الثانوية، مررت بجانب تظاهرة، أو شاركت فيها، ليتم اعتقالك، ثم ترحيلك إلى أحد مراكز التوقيف، فتتلقى صوراً من التعذيب والضرب والإهانة المذكورة في التقرير، وتعترف بأيّ شيء يريدونه، فتعرض تالياً على المحكمة العسكرية، ويتم الحكم عليك مع العشرات بدقيقتين، أو ثلاثة، بالإعدام أو السجن لفترة طويلة!
مرحباً بك في سيارةٍ بيضاء كبيرة مع العشرات، معصوب العينين! أنت الآن في الطريق إلى "المسلخ"، عفواً أقصد سجن صيدنايا. سيتم إدخالك مع رفاقك إلى السجن، لتتلقى في اللحظة الأولى ضربات بأسلاك الكهرباء المعرّاة وبأحزمة الدبابات، ثم تقاد بصورة جماعية مع أعداد كبيرة إلى الحمام. وقبل ذلك يتم تعذيبكم، واغتصاب بعض اليافعين أمامكم من قبل سجناء آخرين، لتحطيم كرامتكم وآدميتكم، ولاحقاً توضع في السجن، لتبدأ عملية "الإبادة" كما وصفها التقرير!
سأترككم هنا، لعلكم تفكرون في قراءة التقرير الموثق. لن أدخل معكم إلى زنازين التعذيب ولا إلى غرف السجن التي تفتك الأمراض، ومنها الأمراض الجلدية بالمعتقلين فيها، ويتم نقل موتى منها يومياً! ولا إلى الحياة الجهنمية هناك، حتى إنّ كثيراً من الشهود يؤكدون أنّهم كانوا يحسدون الأموات على تخلصهم من العذاب. وهناك فقرات لا أستطيع كتابتها هنا، في هذه المقالة، نظراً لبشاعتها!
التقرير يتحدث عن 17723 شخصاً تمت إبادتهم في السجن خلال أربعة أعوام (2011-2015). لكنّه يعترف أنّ الرقم متواضع، وأنّ الرقم الحقيقي قد يكون أكبر من ذلك بكثير. لكن المؤلم أكثر هي كلمات لأحد المعتقلين السابقين، إذ يؤكّد أنّ من خرجوا أغلبهم مصاب بأمراض نفسية، مثل الذهان وحالات اكتئاب وفزع، من الصورة التي رأوها خلال تلك المحنة، فضلاً عن الأمراض الأخرى.
يعرض التقرير لصور بعض المعتقلين السابقين، وهي بحدّ ذاتها تحكي جزءاً كبيراً من المأساة، بمجرد مقارنتها قبل دخول أصحابها إلى السجن وبعد خروجهم منه!
لا يمكن الحديث عن أوطان وتنمية اقتصادية أو إصلاح سياسي أو مستقبل من دون أن تكون هناك ثورة ثقافية وأخلاقية وإنسانية عربية تعلن بوضوح تجريم وإدانة التعذيب وعدم القبول به، لأنّه مرتبط بالعصور الوسطى وبتدمير الإنسان. وبالنتيجة، لن نصل إلى مرتبة "الإنسانية" إذا لم نبن جدراناً سميكة ضد ثقافة التعذيب والإهانة في كل الدول العربية.
"المسلخ" هو مكان القتل الجماعي للحيوانات، إلا أن التقرير استخدمه لوصف سجن صيدنايا. لكن المسلخ الحيواني لا يوجد فيه تعذيب وإهانة وتدمير ممنهج للحيوانات قبل قتلها!