الرئيسية مقالات واراء
الفرضية التي ناقشناها خلال المقالات السابقة تتمثل في أنّ أحد أهم الأسباب الكامنة وراء "تيه الشباب"، وانجراف نسبة منه إلى التطرف والعنف، ونسبة أخرى إلى المخدرات والانحراف، وثالثة إلى الاغتراب السياسي والثقافي، ورابعة إلى "الانفصال" عن الدولة، يكمن في "تيه" الدولة نفسها، وفقدانها للهوية والفلسفة الوطنية الجامعة والقدرة على إنتاج الخيال العام والحلم الوطني الجامع.
ما هو الوطن الذي نريد؟ ما هو شكل الدولة؟ ما هو المستقبل؟ كيف نقرأ تاريخنا؟ من نحن الأردنيين؟ إذا كانت الإجابة عن هذه الأسئلة محلاّ للخلاف بين النخب السياسية والرسمية، فكيف نتوقّع أن تصل الإجابة إلى الشباب ويسيروا في ركاب حلم يجمعهم وخيال خصب لكيفية تطوير المجتمع وتقدّمه، والاندماج في العمل العام، والعلاقة مع الدولة؟.
مثل هذه القضايا غير محسوسة بصورة مباشرة، (مثل مشكلات البطالة والفقر، التي يركّز عليها الجميع) لكنّها في تأثيرها قد تكون أشدّ وأهمّ، ذلك أنّ الشباب عندما يفقد الأفق ولا يرى المستقبل، ولا يجد البوصلة، يبحث عن خيارات وفضاءات أخرى للهروب والخروج من هذا الواقع، لكن حتى لو كانت هنالك مشكلات بطالة وفقر، وكان هنالك مسؤولون ومثقفون وسياسيون يتحدثون مع الجيل الصاعد، ويمثلون قدوة لهم، ويساعدونهم على التماس الطريق، وإقالتهم من عثرتهم، وإخراجهم من شبح السوداوية الذي قد يهيمن عليهم بسبب الأوضاع المالية والظروف السياسية القاسية المحيطة، فإنّ مثل هذه "النخبة الواعية" ستكون عاملاً مهماً في إنقاذ وحماية جيل الشباب!
لكن المشكلة، كما ذكرنا سابقاً، في النخبة السياسية نفسها، فهي تائهة أيضاً، ولا تفكّر إلاّ بمنطق جزئي، وربما محبطة اكثر من الشباب نفسه! بعض الوزراء لا همّ لهم إلاّ طول البقاء في المنصب، وبعضهم ينتظر بفارغ الصبر خروجه منه ليعمل في القطاع الخاص، ما يوفر دخلاً مالياً أفضل، وآخرون يفكرون فقط بقطاعاتهم، ما خلق حالة من الفراغ السياسي الرهيب في البلاد، وأصبح خطاب الدولة مجوّفاً من أي معنى روحي وأخلاقي وثقافي ووطني حقيقي، ما عزّز عزلتها عن الوسط الاجتماعي والثقافي العام!
بالرغم من أنّنا لو نظرنا في الطاقم الوزاري الحالي وحده سنجد أنّ هنالك أسماء يمكن أن تمثّل قدوة للجيل الجديد، لو أنّها أخدت الأدوار والمهمات المطلوبة منها، بوصفهم رجال دولة، وليس مجرّد موظفين يؤدون مهمات محددة، لكن المشكلة أنّ مثل هذه النماذج غائبة عن الإعلام، لا نهتم بصناعتها، وكأنّها أمر ثانوي، مع أنّها مهمة لإلهام وتوجيه الجيل الجديد!
حتى لو عدنا إلى كتب التاريخ الأردني، في المدارس والجامعات وفي المكتبات، وحتى في الرواية، وفي الفنّ الدرامي والسينمائي والمسرحي، فهنالك قحط حقيقي في بناء الرواية الذاتية، كيف نفهم أنفسنا وتاريخنا، فالتاريخ الذي يقرؤه الطلاب (في مختلف المراحل) عبارة عن سرد أحداث بصورة جوفاء، بلا أي معنى روحي وأخلاقي، أو بعد فلسفي، ولا نبتعد عن جادة الصواب إن قلنا أنّ نسبة كبيرة من الشباب الأردني، والأردنيين، لديهم رؤية ملتبسة ومشوشة، وقد تكون مشوّهة عن تاريخنا الوطني والأحداث التي مررنا بها، أقرب إلى "نظرية المؤامرة"!
كنت أنظر بالأمس إلى صورة لعمّان في العام 1910، وهي مساحة خالية من العمران والبيوت تقريباً، كثير ممن شاهدوها – من الجيل الجديد- صُدموا، لم يتخيلوها هكذا، لم يدركوا كيف تطورت الدولة حتى أصبحت عمّان من أجمل وأرقى العواصم العربية، متقدمة على العواصم التاريخية، وأكثر من ذلك لا يعرفون كيف تحققت المعجزة الأردنية، فأصبحت الدولة المهددة بالزوال دوماً من أكثر الدول العربية استقراراً وأمناً!