الرئيسية مقالات واراء
عيسى الشعيبي
في اللقاء الشهري المنتظم، الذي يعقده الدكتور أسعد عبدالرحمن، في إطار النشاط الثقافي لمؤسسة فلسطين الدولية، تتم استضافة شخصية مرموقة، من داخل الأردن أو من خارجه، تلقي محاضرة قيّمة، وتدخل من ثمة في حوار مع نخبة، تتكون في الغالب من نحو مئة مدعو، بين مهني وسياسي وإعلامي، لتنتهي بمأدبة عشاء غير دسم على شرف الضيف.
كان موعدنا في الأسبوع الماضي مع الدكتور أحمد الطيبي، أحد أبرز الوجوه من عرب الـ48، وأكثر قادة الأقلية العربية الكبيرة نشاطاً داخل الكنيست وخارجه، وربما أغزر أبناء الضلع الفلسطيني الثالث معرفة بالحياة السياسية الإسرائيلية، وأشدهم إدراكاً لمكوّنات الصورة الداخلية، لمجتمع يبدو من بعيد كالقلعة الحصينة.
ولعل أهم ما تطرق إليه المحاضر، المعروف جيداً لدى الأوساط الرسمية والأهلية في الأردن، جراء مواقفه المشهود لها، واشتباكاته الكلامية العديدة في الكنيست، ما ذكره الطيبي حول شدة حساسية الاسرائيليين إزاء تذكيرهم بحقيقة أنهم ينجرفون بتسارع نحو العنصرية الفاشية، ويقيمون نظام فصل عرقي، على غرار ما كانت عليه جنوب افريقيا.
وأحسب أن هذه المقدمة كانت ضرورية لتبيان أهمية ما جاء في التقرير الدولي الصادر عن "الإسكوا" المتضمن تشخيصاً مدعماً بالأدلة، على ما بنته اسرائيل من نظام عنصري (الابرتهايد) يهيمن على الشعب الفلسطيني، يهدف إلى إضعاف قدرة هذا الشعب على المقاومة، وهو ذات الكلام الذي أسهب الدكتور الطيبي في شرحه قبل نشر ذلك التقرير بيوم واحد.
ومع أن هذا التقرير الأممي النادر لم يعتمد رسمياً، وأدى إلى استقالة الدكتورة ريما خلف، تحت ضغط كل من الأمين العام والولايات المتحدة واسرائيل، بعد أن رفضت هذه السيدة التي ترفع الرأس، سحب التقرير الذي يدين اسرائيل بالعنصرية، إلا أن ما ورد فيه لن يمحى، وسيظل وصمة عار في جبين كل الذين ضغطوا لسحبه.
وبقدر ما يدعو موقف خلف إلى بعث الاعتزاز والفخر بهذه السيدة التي استقالت من منصبها الرفيع، استجابة لما أاملاه عليها ضميرها الوطني والإنساني، في موقف قل حدوثه في الأمم المتحدة، بقدر ما يبعث موقف انطونيو غوتيرس الخيبة والأسف في نفوس الذين تفاءلوا ذات يوم قريب بوصول هذا اليساري البرتغالي إلى أعلى منصب دولي.
على أي حال، لقد بات لدينا اليوم ما يستحق أن نفخر به حقاً في الأمم المتحدة، وأن نرفع رؤوسنا عالية بهذا الموقف المبدئي الشجاع لواحدة من بناتنا، أخوات الرجال، شقيقة صديقي عصام خلف ايام الزمن الجميل، ذلك الفتى الذي كان سيطيل رقبته أكثر فأكثر، لو كان ما يزال بيننا نحن الفخورين بهذه الوقفة المشرفة.
وباعتبار أن الكلمة مثل الرصاصة، لا يمكن استعادتها بعد إطلاقها، فقد حقق هذا التقرير المغدور كل ما كان مرجواً من وراء كتابته، بل وازدادت قيمته اكثر، واتسع الاهتمام به، وتضاعف نطاق انتشاره بعد منعه، تماماً على نحو ما يحدث مع الكتب والروايات التي تصادرها سلطات الرقابة في الدول الاستبدادية.
ذلك ان سحب هذا التقرير من الموقع الرسمي لمنظمة الأمم المتحدة، لا يلغي مضمونه الذي بات ملكاً لوسائط الإعلام وللرأي العام العالمي، حيث إن إنكار الحقائق لا يبطلها مهما طال الزمن، وإن خضوع المنظمة الدولية لضغوطات بعض الدول النافذة، لا يرفع من قيمتها، إن لم نقل انه يضيء على مدى الاختلالات الكامنة في بنية ارفع منتدى دولي على الإطلاق.
لقد راكمت استقالة ريما خلف من وزن هذا التقرير، من حيث لا يحتسب المتواطئون على وأده، بل ستساعد محتوياته على تقديم لائحة اتهام موثقة أمام محكمة العدل الدولية، حين تأزف اللحظة المواتية، وتتهيأ الظروف المناسبة لمحاكمة اسرائيل على جرائمها العنصرية، وانتهاكاتها الفظة لحقوق الإنسان الفلسطيني، طال الزمن أم قصر.
تبقى ضرورة القول إن لريما خلف دَيناً اخلاقياً مستحقاً في أعناقنا، وهو أن تنال الأمين العام المساعد للجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا، التكريم الذي تستحقه من جانب بلدها ومواطنيها، وأن تمنح ما يليق بموقفها من أوسمة، تسابق الناشطون على مراكز التواصل الاجتماعي في إسباغها على هذه البطلة، التي من لحمنا ودمنا