الرئيسية مقالات واراء
رنا الصباغ
ليست المرة الأولى التي تلقي فيها د. ريما خلف - خبيرة الاقتصاد والسياسة الأردنية- حجرا مدويا في بحيرة راكدة من المواقف الشعبية والنخبوية، التي تعودت التأرجح بين عمى التشدد وشيطنة الآخر وبين مبدئية رافضة للتمييز العنصري تلتزم بقيم العدالة والكرامة الإنسانية.
لكن هذه المرّة أصاب حجر الأمين التنفيذي للجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (الإسكوا) ضمير الأمم وتطايرت شظايا قنبلتها "الأخلاقية" في وجه أمين عام الأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، لتهزّ أركان العالم.
فتقرير ذراع المنظمة الأممية - التي كانت ترأسها حتى مساء الخميس - وثّق عنصرية إسرائيل من منظور القانون الدولي الإنساني. دولة تمارس نظام الأبارتيد (الفصل العنصري) المحظور دوليا للتحكم بمصير قرابة 12 مليون فلسطيني – عدد كبير منهم مواطنو الدولة العبرية، وأبناء جلدتهم في الضفّة الغربية وقطاع غزة، والبقية في الشتات.
وطالب التقرير أعضاء المنظمة الدولية التحرك سريعا للجم إسرائيل – آخر استعمار على وجه الأرض - ومعاقبة سياساتها العنصرية.
د. خلف قالت كلمتها ومضت. وها هي تخطّ التاريخ مجددا بإصرارها على كشف مضامين تقرير اللجنة الدولية، أو الاستقالة ردا على طلب غوتيريش منها سحب هذا التقرير غير المسبوق بحق دولة الاحتلال خوفا من عقاب إسرائيل ودونالد ترامب
على أن غبار الاستقالة انتقل مباشرة إلى الفضاء الإلكتروني مشعلا حرب تغريدات وبوستات، بعضها حاول التشكيك بموقف د. خلف وتقزيمه، بدلا من الإقرار بجرأتها في كشف ما بات يهدّد قيم الأمم المتحدة وانحيازها لمعايير الحق والعدل والحرية.
البعض رأى أن استقالتها لا تقدم ولا تؤخر كونها جاءت قبل أيام من انتهاء عقدها مع منظمة الإسكوا. آخرون اعتبروا أنها لا تستحق صفة "شخصية وطنية" على خلفية أنشطة طلابية لها عدّت تحديا للدولة الأردنية خلال سبعينيات القرن الماضي في الجامعة الأميركية في بيروت. كما دان بعضهم سياسات الخصخصة واقتصاديات السوق الحرة، التي دعمتها عندما حملت حقيبة التخطيط وجلست في مقعد نائب رئيس الوزراء قبل انتقالها للعمل في الأمم المتحدة.
هذا التشكيك يثير الحزن.
فبدلا من التركيز على القضية المثارة وأبعادها القانونية بموجب المواثيق الدولية والبحث في إمكانية مقاضاة إسرئيل مثلا، انخرطت الأصوات الإلكترونية بـ"لعبة شخصنة"، وشنّت معركة شيطنة عبر اجتزاء الحقائق وإخراجها من سياقها، متجاهلة إنجازات سيدة مثيرة للجدل اختارتها صحيفة "فاينانشال تايمز" البريطانية العام 2009 ضمن أكثر 50 شخصية تأثيرا في العالم.
فهذه المقاتلة شاركت في رسم ملامح العقدين الماضيين، عندما فجّرت سجالات محلية وعربية، بعد أن دفعت باتجاه إصدار سلسلة تقارير أممية سنوية حول مؤشرات التنمية الإنسانية في العالم العربي. نتائج تلك التقارير هزّت عروش صانعي السياسات وصدمت الشعوب، حين كشفت عجزا مرعبا في الحريات السياسية، تهميشا للمرأة – نصف المجتمع – وانهيارا في التعليم وضمورا في الثقافة. وفوق ذلك دقّت ناقوس الخطر من فجوة المعرفة الرقمية، وإشكالية الهوية والإصلاح الديني في العالم العربي.
تلك الإصدارات السنوية - التي شارك فيها مؤلفون عرب يمثلون التيارات السياسية والمعرفيه كافة - عدّت وقتها استهدافا للبلدان العربية وبخاصة المناوئة للحريات ومحاولة لنشر غسيل العرب أمام العالم. وتناسى المنتقدون آنذاك أن كل تلك التحديات عادت لتطفو على السطح لتؤجج الربيع العربي قبل أن يتحول إلى خريف قاتم. وستطفو مرارا وتكرارا طالما استمرت الحكومات العربية في سياسة النعامة متغاضية عن العفن المتغلغل في مفاصل الدول والصدأ في مسنناتها.
د. خلف دفعت مرارا ثمن جرأتها في قول الحق أو في التفكير بحلول خلاّقة خارج الصندوق في مجتمع أبوي متشدد بات يلف المنطقه العربية يرفض منح النساء حقوقا مدنية وسياسية. كما يحرمهن من حق إبداء رأي صلب وواضح في قضية تمس الشأن العام أو تنفض الغبار المحشور تحت السجاجيد المزركشة والملونة.
د. خلف اعتادت على العمل تحت الضغوط والسير بين الألغام أكثر من الحكومات العربية التي تخشى سطوة أميركا وإسرائيل؛ إذ تعرضت قبل شهور لضغوط دول وازنة في الأمم المتحدة، لمنع إصدار تقرير بعنوان "الظلم في العالم العربي والطريق إلى العدل". لكنها لم تساوم أو تنحز سوى للحقيقة. وصمدت أمام ضغوط دول نافذة وحاولت إسرائيل سابقا شطب الفصل المتصل بـ"مظلمة فلسطين".
كما أن الدول التي دعمت الثورات المضادة واصلت دورها السلبي في مواجهة تقرير الظلم، حال ما حصل لتقرير الأبارتيد الذي أجهضته ضغوط تل أبيب وواشنطن على غوتيريش، الذي جيّر الضغط إلى د. خلف.
تنازلت الأمم المتحدة عن حقوق الملكية الفكرية الواردة في تقرير الظلم، فأقدم مؤلفوه على نشره على عاتقهم بعد أن دفعوا تكاليفه.
مرة ثانية يسطع نجم الحقيقة ويكشف حجم النفاق السياسي/ الإنساني الدولي بمشعل الإسكوا رغم محاولات تغطيتها بغربال.
الآن، لن تستطيع أي جهة إنكار محتوى التحقيق الذي أطاح بهذه السيدة الشجاعة، ذلك أنه انتشر كالنار في الهشيم بالرغم من عجز منظومة الأمم المتحدة عن احترام رسالتها ودورها، وتغاضيها عن تنفيذ غالبية القرارات الدولية بشأن فلسطين، وغيرها من القضايا الدولية. فلن تستطيع أي دولة توظيف دراسة الإسكوا الأخيرة في طرق أبواب محكمة الجنايات الدولية لمصلحة الشعب الفلسطيني، بعد أن انسد الأفق السياسي بوجه تسوية الصراع العربي-الإسرائيلي على أساس حل الدولتين.
فالدفاع عن القضايا العادلة له ألف باب وباب. لن تستطيع أي جهة إنكار أن التقرير حقّق انتصارا أخلاقيا للقضية الفلسطينية ولحقوق الفلسطينيين. لن تستطيع أي دولة التغاضي عن جرأة د. خلف في قول الحق بوجه نظام أممي جائر، على نحو ينسجم مع ضميرها وقيمها الأخلاقية والإنسانية العالية.
لن ينكر أحد أن وسم ريما خلف كان الأكثر تداولا في الأردن وسائر المنطقة. ولن ينكر أحد أن هذا التقرير سيعزّز موقف القوى الفاعلة على الساحة الدولية المطالبة بمقاطعة إسرائيل، وسحب الاستثمارات منها وفرض عقوبات عليها. هذه القوى تشدّد على ضرورة فكفكة النظام العنصري الإسرائيلي قبل أي حديث عن حل الدولتين أو حل الدولة الواحدة.
ما يهمنا أن هذه السيدة صدحت بكلمة حق باسم ما تبقّى من إنسانية وعدالة لدى المجتمع الدولي. نقطة على السطر.
علينا أن نثني على شجاعتها ولو بقي لها يوم واحد في وظيفتها. ففي تقريرها عوامل تجمعنا أكثر مما تفرقنا، حال الخلاصات التي وفّرتها سلسلة تقارير التنمية الإنسانية العربية التي أشرفت عليها.
لنشكر د. ريما خلف على مساهماتها من أجل حياة أساسها الحرية والكرامة والعدالة للجميع.
فالحياة وقفة عز.