الرئيسية مقالات واراء
أحداث اليوم - في الفساد الصغير الذي بات ينخر في غالبية المؤسسات المرتبطة بتقديم الخدمات للمواطن، نركز، نحن الإعلاميين، على الموظف المرتشي، فيما نهمل الشق الثاني من المعادلة، والذي لولاه لما بلغنا هذا الدرك السيئ.
فالراشي هو أساس الظاهرة وعنوانها، ولو أدرك الناس أن فعلهم مشين ولا يقل وطأة عما يفعله الموظف العام من قبول الرشوة، لتمكنت الجهات المسؤولة من محاربة هذه الظاهرة المدمرة.
هذه رسالة لدافعي الرشوة؛ للذين طالما أسمعونا شكاواهم من تعرضهم للابتزاز من الموظفين الفاسدين، وعبّروا عن غضبهم من اضطرارهم لدفع أموال لتسيير أعمالهم.
لهؤلاء أقول: أنتم لا تقلون مرضا عمن يقبل الرشوة، وأنتم من الأسباب التي ساهمت في خلق البيئة الحاضنة لمرضى النفوس من موظفي القطاع العام الفاسدين، حتى صارت الرشوة، بكل أمراضها، قصة مستساغة بخضوعكم لرغبات البعض، ولو أنكم أغلقتم الباب، لما وصل المشكل إلى الحجم الذي نتحدث عنه اليوم.
الرد عندكم جاهز لكي تبرّئوا أنفسكم، وترموا التهمة على غيركم، فتقولون إن الجهات الرقابية لم تحاصر المشكل، وتركت الناس لابتزاز الموظفين حتى صار مسلك تقديم الرشوة أمرا اعتياديا، ولم يعد سلوكا مخالفا للقيم والأخلاقيات والفطرة، وساهم في ذلك تراخي الحكومات في محاربة المشكلة، وحصر العقاب في محاسبة موظفيها دون توسيع دائرة النظر، من أجل تقديم حل جذري.
المهم، أنه تتوفر اليوم الرغبة والإرادة الرسميتين لمواجهة هذه المشكلة، لكن ما يعيق ذلك هم دافعو الرشى، فالحالات تحدث يوميا، غير أن ما يضبط منها بالكاد يذكر. على مدى الأشهر الماضية التي أعلنت فيها حكومة الملقي الحرب على الفساد الصغير، لم يتم سوى ضبط حالة واحدة، رغم أننا جميعنا نستطيع أن نخمّن العدد الهائل للحالات التي حدثت خلال هذه الفترة.
الخبر المهم أن مدّعي عام النزاهة ومكافحة الفساد قرر توقيف أحد موظفي ضريبة الدخل والمبيعات 14 يوماً على ذمة التحقيق في مركز إصلاح وتأهيل ماركا، على خلفية طلبه رشوة من أحد مكلفي الضريبة.
الخبر يقول إن الموظف طلب من أحد المكلفين رشوة مقابل إنجازه معاملة براءة ذمة جراء تصفية شركته، إلا أن صاحب الشركة لجأ إلى هيئة النزاهة ومكافحة الفساد شاكياً من هذا الإجراء كون موظف الضريبة استغل موقعه الوظيفي واستثمر سلطته التي يمنحه إياها قانون ضريبة الدخل لتحقيق مكسب غير مشروع. بعدها، قامت وحدة العمليات في الهيئة بضبطه متلبساً بالجرم المشهود، وألقت القبض عليه وهو يتسلم المبلغ من المكلف الذي اتفق مع الهيئة على تأدية الدور.
اليوم، وما دام الكل متضررا من الفساد الصغير، وأولهم دافعو الرشاوى، فإن محاربة هذه الظاهرة لا تستوي إلا باقتناع كل من يقدم الرشوة بقصد تسهيل أعماله أنه مجرم هو الآخر، والخطيئة لا تقع فقط على من يتلقاها بل، أيضا، على من يبادر إلى دفعها.
ليس سرا أن مؤسسات كثيرة ينخر فيها الفساد الصغير الذي يتم دفعه لأهداف عديدة، بعضها لتسريع إجراء، وآخر لالتفاف على قانون وتحقيق مكتسبات مالية من ذلك، وطالما أن النوايا طيبة عند الجهات الرسمية، فلم يعد من مبرر للسكوت بعد اليوم على هذا المرض، بل ينبغي أن يكون سلوك المجتمع تجاه طالبي الرشوة تماما كما الرجل في الخبر، والذي لم يقبل على نفسه أن يكون طرفا في جريمة أخلاقية تلوث مرتكبها إلى الأبد.
السادة دافعو الرشاوى؛ محاربة الفساد الصغير غير ممكنة من دون تعاونكم ومن دون إدراككم لبشاعة ما تفعلونه وأثره الهدام على منظومة الأخلاقيات والقيم التي تحكم أي مجتمع صحي. أرجوكم؛ كفوا عن التواطؤ مع ضعاف النفوس، وارفضوا أن تكونوا سببا في تفشي مرض يقتل نقاء المجتمع وطهره، ويحيله إلى ما يشبه السوق التي تتاجر بكل شيء.. حتى بالأخلاق والقيم.