الرئيسية مقالات واراء
لا يختلف الطرفان السوريان؛ النظام والمعارضة المسلحة، على وصف عمليات الإجلاء المتبادل لبلدات وقرى سورية بالتهجير. الرئيس السوري بشار الأسد قال إنه "تهجير إجباري مؤقت ولا يقلقنا"، أما المعارضة فاعتبرته "تهجيرا قسريا" يسعى النظام من خلاله إلى تغيير ديمغرافي في البلاد.
أيا تكن التوصيفات، فنحن إزاء عملية غير إخلاقية وغير إنسانية تورط فيها الطرفان، وبتواطؤ من أطراف إقليمية ورعاية دولية.
في مقابل حصار قوات النظام لبلدتي الزبداني ومضايا التي يغلب الانتماء السني على سكانهما، كانت جماعات المعارضة المسلحة تحاصر بلدتي الفوعة وكفريا التي تقطنها أغلبية شيعية. ما يعني، ببساطة، أن طرفي النزاع أخذا المواطنين العزل رهائن في إطار سعيهما لتسجيل نقاط في معركة دموية لا تنتهي بينهما.
ولأشهر طويلة تعرض المدنيون في البلدات الأربع، وكما هو الحال في عديد المناطق السورية، لعقوبات جماعية شملت قطع الغذاء والدواء والمياه عنهم. وكل شحنة مساعدات إنسانية كانت تخضع قبل إدخالها لمساومات سياسية دون أدنى اعتبار للمعايير الإنسانية.
الحروب الأهلية هي أسوأ أشكال الحرب على مر التاريخ، لأنها، وعلى خلاف الحروب بين الدول، لا تخضع للقواعد والمواثيق الدولية المتعارف عليها، فيتخلى المتحاربون عن أبسط الضوابط الأخلاقية والإنسانية، ولا يتورعون عن ارتكاب الجرائم الجماعية، ويصبح المدنيون أهدافا مشروعة.
والتهجير الجماعي للسكان عن موطنهم الأصلي، هو من أفظع أشكال العقاب الجماعي في الحروب الأهلية. وفي كل الدول التي شهدت حروبا أهلية في التاريخ المعاصر، ثمة حالات محدودة جدا تمكن فيها المهجرون من العودة لديارهم، خصوصا إذا ما انتهت الحرب بتسويات سياسية بين القوى المتحاربة تكرس الوضع الديمغرافي القائم.
وفي حالة سورية، تحديدا، تشجع عمليات التهجير القسري وتبادل السيطرة الطائفية على قبول خيار التقسيم كأمر واقع في المستقبل، وفي أحسن الأحوال ترويج لخيار الفيدرالية المطروح أساسا كمخرج من الأزمة.
عمليات الإجلاء في سورية حدثت كلها تحت إشراف الأمم المتحدة، استنادا لاتفاق وقع العام 2015 بين الحكومة السورية والفصائل المسلحة.
قد يبدو ذلك مقبولا من الناحية الإنسانية كمخرج لإنقاذ السكان من الموت جوعا، لكن الوجه الآخر للعملية ينطوي على إقرار بفشل الجهود الدولية في إيجاد حل سياسي للأزمة، يضمن حق الناس الطبيعي بالبقاء في أماكن سكناهم.
ومع انعدام فرص الحل وتفاقم المأساة السورية، ستمضي عمليات التهجير القسري بوتيرة متصاعدة، وتتحول إلى نهج عام لمعالجة الأوضاع الإنسانية البائسة للسكان.
وعمليات التهجير في سورية لا تقتصر على الصفقات المبرمة بين النظام والمعارضة برعاية أممية، فهناك الملايين من السوريين الذي نزحوا عن بلداتهم هربا من الموت، وانتقلوا لمناطق أكثر أمانا تقع معظمها تحت سيطرة النظام.
بمعنى أخر، خريطة سورية الديمغرافية شهدت تحولات كبرى لا يتصور المرء طريقا لمعالجتها في المستقبل، وإعادتها إلى ما كانت عليه قبل هذه المناقلات الضخمة لمجاميع البشر.
هنا يبدو السؤال عن فرص عودة اللاجئين السوريين في الخارج لبلادهم ضربا من الخيال.